كثيرا ما نقف مسحورين أمام لوحة مدهشة غامضة، وأحيانا يسحرنا فيلم سينمائي يولّد فينا مشاعر متضاربة فنبكي تارة ونضحك تارة أخرى. وعندما نستمع لإلقاء متفرّد لشاعر مبدع تنتابنا أيضاً مشاعر جديدة لم نستشعرها من قبل.
إنه الإبداع، منبع الفنون والعلوم، ومهجة الأفئدة ومبتغى الحالمين، إنّه السّهل الممتنع، فلو سألت كثيراً من المبدعين كيف أبدعوا لتلعثموا، فهم لا يستطيعون الإجابة عن أسئلة الإبداع الشائكة، أو تحديد مصادر الإبداع البشري.
ما طقوس الكتابة لديكم؟
سؤال مكرر في اللّقاءات الإعلاميّة للمبدعين في شتّى مجالات الآداب والفنون، تتعدّد الأجوبة، فمنهم من يحدّد طقوسا معينة، ومنهم من يقول إنّ الأفكار تتدفّق من دون زمان أو مكان محدّد، فإن دوّنها، تبلورت وإن تركها فلن تعود إليك.
تتعدّد الأجوبة وتتنوّع، لكنّنا قلّما نجد إجابة شافية لهذا السّؤال الإشكالي الذي حاول الابتعاد عن المباشرة، فوقع في فخ الباطنيّة، فأفصح عمّا لا يبطن، وكان يجب أن يكون السّؤال لكلّ مبدع مباشر وصريح: ما مصدر إبداعاتكم؟
"أنا لا أكتب واعياً، يبدو الأمر كان ملاكا يجلس فوق كتفي" نيل سايمون
يقول عباس محمود العقاد في كتابه "عرائس وشياطين": إنّ الأساطير اتّفقت بأنّ الشّعر من وحي العرائس أو من وحي الشياطين، فاختار الأوروبيون أن يتلقّوا وحيهم من عروس، واختار العرب أن يتلقوا وحيهم من شيطان، ولا نراهم اختلفوا كثيرا في نهاية المطاف".
فالاعتقاد السّائد عند العرب أن شيطان الشّعر يتلبّس الشّاعر، ويقول الشّعر على لسانه، كما أنهم يميّزون بين نوعين من الشّياطين، "الهوبر والهوجل"، فمن كان شيطانه من نوع الهوبر فشاعريّته قويّة وشعره جيّد، بينما من كان شيطانه من نوع الهوجل فشاعريّته ضعيفة وشعره رديء، ولبعض الشّعراء شياطين مخصّصة، فشيطان الأعشى مثلاً هو "مسحل"، وشيطان زياد الذبياني هو "هاذر بن ماهر"[1].
ليس هذا وحسب، وإنما لهؤلاء الشياطين أماكن محدّدة ينتشرون فيها كوادي "عبقر"، فمن أراد أن يكون شاعرا يبيت ليلته هناك عسى أن يتلبسه أحد شياطين الشّعر، ليصبح شاعرا يشار إليه بالبنان.
والعرب ليسوا وحدهم في هذا الاعتقاد الأسطوري (كما ذكر العقاد)، فهناك إلهات الإلهام "عرائس الإلهام" التي كان الإغريقيون القدامى يعتبرونهن مصدراً لإبداعاتهم، حيث تنفرد كل عروس بفن من الفنون فالكاليوبي عنيت بالشّعر الملحمي، وكليو ملهمة التّاريخ، وإراتو إلهة الشّعر الغزلي والإيماء، ويوتيربي إلهة الموسيقا، وبوليهيمنيا ملهمة الترتيلات الدينيّة، وميلبوميني اهتمت بالتراجيديا، وثاليا تلهم الكوميديا، وتيربسيكوري إلهة الرّقص، وأورانيا إلهة العلوم الفلك.
ولعل هذه النّظرة الأسطورية في تفسير جانب من جوانب الإبداع لا تزال موجودة إلى عصرنا الراهن، إذ يقول الروائي السوداني عمر فضل الله إن إحدى رواياته كانت تلقى على مسامعه وكانت وظيفته فقط الكتابة والتدوين. عندما بحثت في موقع الدكتور عن تفسير لهذه الظاهرة وجدت أنه ولد ونشأ بقرية العيلفون التي لها تاريخ بالتصوف، وهذا قد يفسر رأي الدكتور فضل الله، فابن عربي مثلاً كان يكتب مصنفاته من خلال ما يملى عليه.
"لدى العاشق والشاعر والمجنون ذات الصنف من المخيلة" شكسبير
علماء النّفس البريطانيون يصفون حالة الابتكار بأنها موهبة، وهي قدرة سيكولوجية فطرية قابلة للقياس لارتباطها بالذكاء العالي، بينما علماء النفس الأميركيون يصفونها بأنها إبداع، لكنها غير قابلة للقياس لعدم ارتباط الذّكاء بالإبداع من وجهة نظرهم، فمن الممكن أن يكون المبدع ذكيا ومن الممكن أن لا يكون كذلك، بينما علماء النّفس السوفييت فيعتقدون أن الابتكار ليس عملية سيكولوجية، إنما عملية مخيّة ذات محتوى ثقافي اجتماعي مكتسب.
هناك قسم آخر من علماء النّفس يعتبر الابتكار حالة باثولوجية "مرضية" كعالم الأمراض العقلية الألماني "كريستجمر".[2]
علماء النّفس البريطانيون يصفون حالة الابتكار بأنها موهبة، وهي قدرة سيكولوجية فطرية قابلة للقياس لارتباطها بالذكاء العالي، بينما علماء النفس الأميركيون يصفونها بأنها إبداع، لكنها غير قابلة للقياس لعدم ارتباط الذّكاء بالإبداع
أما فرويد فقد درس بعض الأعمال الأدبية كرواية الإخوة كرامازوف لديستوفيسكي ومسرحية أوديب ملكاً لسفوكليس ليستنتج أنّ المبدع ابن حالته النّفسيّة، حيث يفسّر الإبداع نتيجة الدّافع النّفسيّ القويّ للكاتب، حيث بيّن أنّ ديستوفيسكي قام ببناء نفسيّة بطل روايته من خلال عقده النّفسية[3]، بذات الوقت يرى فرويد أنّ الأعمال الأدبية تساهم في تطوير علم النّفس، فيقول "إن الشّعراء والروائيّين هم أعزّ حلفائنا، وينبغى أن نقدّر شهادتهم أحسن تقدير، لأنهم يعرفون أشياء بين السّماء والأرض، فهم فى معرفة النّفس شيوخنا، لأنّهم يرتوون من منابع لم يتمكن العلم بعد من بلوغها"، وهو بذلك ينتهي إلى ما يخلص إليه النّاقد المغربي حسن المودن في كتابه "الأدب والتحليل النفسي" بعد دراسة بعض نصوص بورخيس القصصيّة، بأنّ عصر التّحليل النفسيّ للأدب قد ولّى وأنّ المفروض هو تطبيق الأدب على التّحليل النّفسي، لأنّ التّحليل النّفسي يركن إلى مسلّماته ، في حين أنّ الأدب يبقى حيا متواصلا لا نهائيا.
"أولئك الذين غدوا أعلاماً في الفلسفة والسياسة والشّعر والفنون، هم الأكثر عرضة للميلانخوليا" أرسطو
تُفرد نانسي أندرياسن فصلا كاملا من كتابها "الدّماغ الخلاق علم أعصاب العبقرية" بعنوان "الإبداع والمرض العقلي" لتستعرض فيه الدّراسات التي بحثت في العلاقة بين الإبداع والأمراض النفسيّة، وتبين نقاط الضّعف بتلك الدّراسات ثمّ تقوم بدراسة محكمة عن علاقة الإبداع بالمرض النّفسي لتتجاوز فيها الأخطاء التي أشارت إليها بالدراسات السّابقة وتخلص إلى أنّ هناك علاقة وثيقة بين بعض الأمراض النّفسية والإبداع، كذلك بيّنت دراسة كاي جاميسون التي وثّقت العلاقة بين اضطرابات المزاج والإبداع. حيث درست 47 أديبا تبين أنّ أغلبهم يعانون من اضطرابات المزاج، وقد عولج أكثر من 38 بالمئة منهم.
"لا يمكن انتظار الإلهام، عليك أن تخرج وتطارده بهراوة" جاك لندن
هناك العديد من النّظريات المفسرة للإبداع كنظريّة الإلهام التي يتبناها أفلاطون، والتي ربط فيها الإبداع بعوامل ميتافيزيقية، والنّظرية العقلية التي ترى أنّ الإبداع ناتج عن عقل ناضج واع، والنظرية الاجتماعية التي تجعل الفن وليد المجتمع، والنظرية الانطباعيّة التي ترى أنّ الفنّان حين يشرع في عمله لا يعلم مسبقاً إلى ماذا ستؤول إليه الصيغة النّهائية للعمل[4].
كما تمر العملية الإبداعية بالعديد من المراحل، فانشغال المبدع بالفكرة وتخمرها برأسه تدعى مرحلة أرخميدس أو نيوتن، ثم يتبعها مرحلة الاستنارة حيث تتوضح صورة المشهد الإبداعي، ثم تأتي مرحلة التّثبيت وهي مرحلة اختبار جودة العمل الإبداعي؛ هل هي فكرة إبداعية فعلا أم أنها مكررة؟ ويمكن أيضا أن يحدث الإبداع بلحظة واحدة من دون التّدرج بالمراحل وهذا ما يسمى لحظة الاستبصار، كما أظهرت نتائج الدّراسات التي اعتمدت على صور التّخطيط الكهربائي للدّماغ والتّصوير بالرّنين المغناطيسي للمشاركين في أثناء قيامهم بأعمال إبداعية أن أغلب أجزاء المخ المختلفة تتشارك في العملية الإبداعية.[5]
هذا ورغم عدم الإحاطة التّامة بمصدر الإبداع الاستثنائي إلا أن هناك نوعاً آخر من الإبداع الاعتيادي الذي يمكن تنميته ورعايته من خلال البيئة الحاضنة، ولعلّ نجاحات السّوريين في المهاجر، ونتائجهم المتواضعة في بلدهم دليل على أن بذور الإبداع موجودة لكنها تحتاج لبيئة حاضنة لتزدهر، فكثير من المبدعين يُدفنون أحياء في مقابر جماعية أو في سجون ومعتقلات وفي أحسن تقدير يدفنون في أعمال روتينية تقتل الإبداع وتعزز هيمنة "البهيمية الأسدية".