عند الحديث عن الدراما الاجتماعية التي تناولت تحولات المجتمع السوري خلال العقد الماضي، فإن ذاكرتنا تستعيد بضعة أعمال لا أكثر، قد يبرز من ضمنها على سبيل المثال لا الحصر، مسلسل "غدًا نلتقي" للمخرج رامي حنا عن سيناريو إياد أبو الشامات وحنا أيضًا، وهو من الأعمال التي ناقشت أزمة النزوح السوري في لبنان من خلال مجتمع سوري مصغّر في أحد مخيمات النزوح، ولدينا كذلك مسلسل "فوضى" للمخرج سمير حسين عن سيناريو حسن سامي يوسف ونجيب نصير الذي ناقش في قصص متنوّعة واقع المرأة في مناطق سيطرة النظام.
تقدم اليوم الدراما الاجتماعية في الموسم الرمضاني الحالي مسلسل "مع وقف التنفيذ" من إخراج سيف الدين سبيعي عن سيناريو علي وجيه ويامن حجلي، وهو من الأعمال التي تكشف عن تفاصيل قصتها منذ الحلقة الأولى التي يحاول فيها الربط بين ماضي وحاضر المجتمع السوري من خلال "حارة العطارين" المكان الذي تعود إليه جميع شخوص المسلسل، بدءًا من المشهد التقديمي لكل حلقة المعنوّن بـ"قبل الخروج" لا "قبل النزوح"، والتي يتبعها باستعارة لشذرات مقصوصة من كتب متنوّعة صدرت جميعها في تواريخ مختلفة.
من هذه الكتب على سبيل المثال لا الحصر كتاب "حوادث دمشق اليومية" للمؤرخ الشعبي أحمد البديري الحلاق، الذي يؤرخ لسبعينيات القرن الـ18، وكذلك كتاب "الباشا والقضاة في دمشق" للكاتب محمد بن جمعة المقار، أو من الكتب المعاصرة نوعًا ما، مثل استعارته شذرة من رواية أعدائي لممدوح عدوان (1941 – 2004)، صاحب الجملة الشهيرة "الإعلام السوري يكذب حتى في النشرة الجوية"، أو جملة مقصوصة من ديوان "كورتاج" لإياد شاهين (1967 – 2013)، الديوان اليتيم الذي تركه شاهين قبل وفاته، وهي نوع من التشويق هدفه جذب الجمهور لمشاهدة المسلسل.
وبحسب ما رصدنا في منصات التواصل الاجتماعي، فإن "مع وقف التنفيذ" ينظر إليه على أنه واحد من أهم الأعمال الدرامية للعام الجاري، وهو من الأعمال المصنفة أولًا إلى جانب "كسر عضم"، لكن لا أحد يعرف من أين أو كيف جاء هذا التصنيف، ولعل أولى الإشادات التي حصل عليها المسلسل كانت مع مشهد أم هاشم (صباح الجزائري) التي طلبت من المحافظ في خطاب قومي منع الشبان من الهجرة إلى الخارج، وأصرت إصرارًا شديدًا على توجيه الدعوة لعودتهم، خطاب يذكرني بلاعب كرة السلة السابق محمد أبو سعدا عندما طلب من السوريين العودة، وتربية أطفالهم على التقاليد الشعبية بالدول الغربية، كان ذلك في حوار مع الإعلامي كامل نجمي ينتقد فيه الأفكار الليبرالية.
ويظهر بأن الأحداث وفقًا لما تابعنا في حلقات العمل السبعة الأولى تقع في مرحلة ما بعد عودة أهالي "حارة العطارين" من رحلة النزوح إلى منازلهم، بشهادة مشهد القناص الذي يقتل زوجة وطفلتي عزام (حجلي) في أثناء محاولتهم النزوح من منزلهم بعد تأجج الاشتباكات، مشهد نال نصيبه الوافر من الحديث على منصات التواصل الاجتماعي، لما يحمله من دلالات مباشرة في رمزيتها للقاصي قبل الداني، حتى إن طاقم الإنتاج لم يكلف نفسه عناء البحث عن طفلين صغيرين أو على الأقل إرفاق مقطع صوتي لطفلين يبكيان بدلًا من صمتهم على الرغم من زئير أصوات الرصاص المستعر.
نكاد نجد أنفسنا في حيرة عند البحث عن الأسباب التي تدفع بكتاب الدراما الاجتماعية إلى تكريس فكرة التسليع والتقليل من قيمة النساء في الأعمال المطروحة للجمهور
للأمانة، ليست معروفة الأسباب التي جعلت من "مع وقف التنفيذ" واحدا من أبرز الأعمال الدرامية السورية للموسم الرمضاني الحالي، والذي يبدأ بمشهد افتتاحي تمنع فيه أم هاشم أبناءها الثلاثة من قتل شقيقتهم عتاب (صفاء سلطان)، أو حتى مشهد التشهير بفوزان فضل الله (عباس النوري) على يد هاشم (فادي صبيح)، أو كما يقال باللغة العامية "التجريص"، على مرأى من الحارة وهو ينادي عليه بـ"القوّاد"، حتى نكاد نجد أنفسنا في حيرة عند البحث عن الأسباب التي تدفع بكتاب الدراما الاجتماعية إلى تكريس فكرة التسليع والتقليل من قيمة النساء في الأعمال المطروحة للجمهور، أعتقد أنها أيام قليلة تفصلنا عن تداول مقطع سيكون عنوانه مثلًا: "التشهير بالقوّاد فوزان"، الشرط الرئيسي لزيادة عدد المشاهدات.
أما القصة الثانية التي يقدمها "مع وقف التنفيذ"، فإنها تقوم على ثنائية الفساد – المخبرين، فساد المسؤولين السياسيين الذين لا نسمع عن سقوطهم إلا دراميًا، وعلاقتهم بالمخبرين وسطاء الفساد، وهي عادة درجت بالعموم على تجميل الأجهزة الأمنية في أي عمل درامي وجهته الأسواق الخارجية، كما يذكرنا أيضًا بقصة فساد المسؤولين – الضباط الأفراد، بالإضافة إلى فوزان، المخبر البعثي الباحث عن أن يكون مختارًا لـ"حارة العطارين"، بمسلسل "عناية مشددة" لوجيه وحجلي أنفسهم، لكن على عكس الأخير، فإن من التوابل المضافة إلى "مع وقف التنفيذ" قصة حليم (غسان مسعود)، شخصية الشيوعي المثقف المنتمي إلى معارضة الداخل لا الخارج، رجل ينتهي به المطاف بشرب كأس المصالحة الوطنية مع أحد الوزراء (محسن غازي).
وكذلك، فإن العمل يقدم أيضًا صورة عن تحول الضباط الفاسدين إلى أدوات يستخدمها المسؤولون المتنفذون، من بينهم جنان (سلاف فواخرجي) زوجة أديب (فايز قزق)، مسؤول متنفذ يستخدم زوجته التي تستخدم بدورها الضابط الفاسد (محمد قنوع) ليقوم بمهام جمع الإتاوات من التجار بالعملة الصعبة، وطبعًا يُنظر إلى قزق وفواخرجي على أنهما يقدمان دورًا رائعًا، لكن أي روعة يتم تقديمها عندما تتعرض فواخرجي مرتين للضرب من زوجها، وهي عادة أصبحنا نراها بشكل متكرر في الدراما المحلية بشكل عام، والتي يبررها كتبتها بأنها جزء من الحبكة الدرامية للعمل، وأنها تعكس واقعًا نعيشه يوميًا، لكن أليس من مهام الفن قلب الواقع ومحاربته من أجل تحسينه نحو الأفضل؟ ربما علينا التذكير بحوادث الطلاق التي انتشرت بعد حادثة الطلاق الأولى بين أبو عصام وأم عصام في "باب الحارة"، وكان محركها كلمة "فشرت" الشهيرة.
حتى الآن على ما تابعت من الحلقات الأولى من المسلسلات السورية بشكل عام، لدينا كثير من المشاهد التي تقوم على تعنيف وتقليل مكانة المرأة، يظهر أيمن رضا في أول لوحات الجزء 15 من "بقعة ضوء"، وهو يصيح بعبير شمس الدين التي تقود سيارتها: "بعمرنا ما شفنا مرة (امرأة) بتعرف تسوق"، ناهينا عن أعمال الفانتازيا الشامية التي يشرف عليها المنتج محمد قبنض، أو ضجة وسائل التواصل الاجتماعي بالخطاب الأخلاقي للضابط مع الفتاة التي تحرش بها الشبان في "كسر عضم"، وهو ما يحيلنا فعليًا إلى العقلية البطريركية في الدراما السورية تحديدًا التي يغذيها كتبة السيناريو تحت حجة الحبكة الدرامية.
يمكننا القول هنا على سبيل النهاية، إن أعمال الدراما الاجتماعية محليًا أصبحت تعتمد على فكرة تبرير العنف تجاه النساء أولًا، وتجاه الآخرين ثانيًا، وهذا ما يؤسس لمقدمة عن صورة المجتمع المحلي بشكل عام، بما يتجاوز تبرير العنف بكل أشكاله سواء اللفظية أو الفعلية تجاه الجميع، لا المرأة فقط، وهو فعليًا ما يذكرنا بالفكرة التي تقوم على أن العنف فطري في مجتمعنا المحلي، وأن ما يغذي هذا العنف التمسك بالتقاليد الموروثة التي يؤكد على صعوبة كبحها، ويتم في مقابلها تغييب وحجب أن الصورة أصبحت جزءًا من التغيير الاجتماعي على مختلف الأصعدة سلبًا كانت أم إيجابًا.