رغم أن المسلسل اللبناني - السوري المشترك "لا حكم عليه"، الذي عُرض أخيراً على منصة "شاهد"، هو مسلسل قصير نسبياً؛ بمعنى أن عدد حلقاته تم اختزاله إلى خمس عشرة حلقة فقط، ولم يلتزم بعُرف الثلاثين حلقة الذي قيّد الدراما السورية والعربية وقتاً طويلاً قبل الدخول إلى سوق المنصات الإلكترونية. إلا أن هذه الحرية النسبية التي منحتها منصات العرض الجديدة للدراما، تبدو عديمة الجدوى في "لا حكم عليه"، الذي اشترك بتأليفه بلال شحادات ونادين جابر وأخرجه فيليب أسمر؛ إذ إن المسلسل يبدو عالقاً في مشكلات الدراما السورية القديمة، فهو نموذج من الحشو الدرامي والإطالة والضياع، الذي كنا نعزوه سابقاً إلى آليات صناعة الدراما وتسويقها والشروط الإنتاجية التي تحكمها.
تداخل الخطوط الزمنية وتشابك الأحداث في الحلقات الأولى وإن بدا خياراً منطقياً بالنظر إلى أن الحكاية تبدأ بطلب إعادة محاكمة "نسيم"، الشخصية التي يؤديها قصي خولي، بعد أن أمضى خمسة أعوام في السجن وهو يقضي حكمه المؤبد بتهمة قتل أمه وعشيقها. لكن هذا التداخل يفقد قيمته بسبب الأسلوب السخيف الذي يتم فيه طرح الأدلة الجديدة التي تبرئه، والتي تطرحها "زمن"، شخصية المحامية التي تؤديها فاليري أبو شقرا، وبسبب عدم الاهتمام بتفاصيل المحاكمة وعدم قدرة الكاتب على خلق حلول درامية لتبرير رغبته بافتعال اللحظات الميلودرامية. إن الحلقات الأولى تسير بشكل غريب، إذ يستغرق المسلسل زمناً طويلاً بعرض مشاهد مجانية من الماضي ومن حياة "نسيم" في السجن، وبالوقت ذاته تمر مشاهد المحاكمة -التي من المفترض أن تكون جوهر الحدث- مرور الكرام.
اقرأ أيضاً: "كاريزما" الممثلين السوريين في تلميع صورة النظام الاستبدادية
كاميرا المخرج فيليب أسمر وبعض العوامل الأخرى كالموسيقى والأداء، قد تجعلك تحتمل هذا الضياع والتشتت الدرامي في البداية، على أمل أن الأمور ستتحسن بعد خروج "نسيم" من السجن؛ لكن الأمور تزداد سوءاً حينذاك، إذ ينسف الكاتب فجأة معظم الملامح الدرامية التي بدأ بتكوينها في البداية، لحساب إضافة حكايات وتفاصيل أخرى، بعضها يبدو قادراً على حمل المسلسل إلى مكانة أفضل، كقضية تجارة الأعضاء التي يتم ربطها بشكل خاطف بجريمة القتل الأولى، والبعض الآخر يبدو سخيفاً، ولا يؤدي إلا إلى المزيد من الحشو الدرامي، سواء كانت هذه الحكايات هي تلك الحكايات القادمة من الماضي، والتي تطورت بشكل غير منطقي حتى صارت مثيرة للسخرية بالزمن الحاضر، لنجد البطل المضاد "أمين" متزوجاً من خطيبة "نسيم" السابقة "نور"، وأنه يعيش في الوقت نفسه علاقة حب غير شرعية مع زوجته السابقة التي طلقها دون أن يعطيها مبررات! أو حتى حكايات الشخصيات الثانوية التي تظهر وتختفي من دون أن تترك أثراً، بعد أن تلقي حوارات ثقيلة هي غير قادرة على حملها. ويبقى الأسوأ من ذلك كله هو قصة الحب التي تتكون بين "نسيم" و"زمن"، التي يمكن وسمها بأنها قصة الحب الأسخف التي تصورها الدراما المشتركة في الأعوام الأخيرة، فهي غير منطقية وغير مشبعة البتة، وحتى لحظات البوح المتأخرة تبدو تحصيل حاصل؛ وحتى موت "زمن" المفاجئ في الحلقة الأخيرة لا يتمكن من منح القصة أي قيمة إضافية.
المسلسل يعلن إفلاسه عندما تنضح القصة الرئيسية بفشلها، أي قضية تجارة الأعضاء، وعندما تحل جميع الأمور عن طريق المصادفة من دون أن تقود الجهود التي يبذلها أبطال المسلسل إلى أي حلول. فعلياً لا يمكن تصور سيناريو أسوأ مما حدث في الحلقة ما قبل الأخيرة، عندما حلّت القضية فجأة، وتلقينا خبر إلقاء القبض على "أمين" مع أبطال المسلسل عن طريق الهاتف، لينهي اتصال واحد سلسلة طويلة من البحث والمطاردات والمواجهات بفشل ذريع. الأمر للحظة يبدو أشبه بنكتة، يمكن تعميمها على الحبكات الدرامية الشهيرة لكشف مكامن الكوميديا فيها؛ كأن نتخيل أن "هاملت" في مسرحية شكسبير يكتشف أن عمه قتل أباه عن طريق رسالة وصلته بالحمام الزاجل، أو أن الأمير في حكاية سندريلا يكتشف هوية حبيبته التي كان يبحث عنها عندما علقت له على منشور على "إنستغرام". هذا المشهد على وجه الخصوص يطرح الكثير من التساؤلات حول قيمة بلال شحادات بوصفه كاتباً، سوّق له في الأعوام الأخيرة على أنه من أبرز كتاب الدراما السورية من دون أن يوقع على أي إنجاز فعلي.
اقرأ أيضاً: الدراما السورية 2020.. زمن واحد لا يكفي
ورغم أن شحادات يقوم بالالتفاف على فشله بالحلقة الأخيرة ليغير خط الحكاية، ويكشف شخصية المجرم بعد سلسلة من المغالطات، فإن هذا الالتفاف لا يزيد الأمور إلا سوءاً؛ فهي تعطيك شعوراً بأن الكاتب يحاول طوال الوقت أن يتذاكى ويمارس لعبة "لن تتوقعوا ما سيحدث"، لكن الأمر الذي سيحدث بعد ذلك سيكون دائماً أسخف من جميع التوقعات.
اقرأ أيضاً: حاتم علي.. من النازح المعتر إلى المخرج الفذ
وبالإضافة إلى مشكلات النص الدرامي، التي يصعب إحصاؤها بمقال واحد، فإن المسلسل ينطوي بالأساس على إشكالية أخلاقية لا يمكن الالتفاف عليها؛ إذ إن تصوير قضية حساسة مثل تجارة الأعضاء في بلاد مثل سوريا أو لبنان، من دون أن يتم طرح هذه القضية بإطارها السياسي، وتحميل المسؤولية كاملةً لمجرم مريض بـ"ثنائي القطب" ليس له أي غطاء أمني، هو أمر يدعو إلى السخرية والاستهجان بحد ذاته؛ إذ إنه بالإضافة إلى الفشل الدرامي، فإن المسلسل يلمع صورة الأنظمة والأحزاب المسيطرة على المنطقة، ليحول أي قضية إلى جرم فردي، وفي الوقت ذاته يصور دوائر الدولة القضائية والحقوقية بصورة فائقة أقرب إلى المثالية.