"مرينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل".
هكذا اختزل الشاعر العراقي مظفّر النّواب مشكلة اجتماعية اتسمت بها مجتمعات الشرق منذ عصور قديمة.
لم تكن تلك المصادفة التي جمعت الشاعر العراقي السياسي مظفر النواب بتلك البدوية الأربعينية لتمرّ من دون أن تُشغل الذاكرة العراقية، ومع تضمّن أحداث المصادفة لمشهدٍ يلامس تفاصيل حياة الريفية، في معظم بلدان العالم العربي، فقد جذّرت أيضًا تلك المصادفة قصص الماضي وما نقل إلينا عبر تأريخ تلك القصص شعرًا وروايةً في مصادر موثوقة عُرف عنها الضبط والعدل.
الزمان عام 1956، أما المكان ففي العراق في محيط قرية أم الشامات باتجاه البصرة جنوبًا. وقبل البدء لا بدّ من التعريف أن من العادات البدوية والأعراف العشائرية حرمان زواج فتاة وشاب إذا كان مسبوقًا بقصة حب علنية قد شاعت في أرجاء المحيط الذي يعيش فيه المحبان، إذ يعتبر أهل الفتاة والشاب أنه من المعيب أن يكتمل هذا الحب بالزواج، ولم يكن ذلك إلا امتدادًا لعرف اجتماعي غزا عصورًا قديمة وتابع به الناس حتى وقتنا الحالي.
أما عن إفرازات الزمان والمكان، فالمصادفة تلخّص حادثةً وقعت داخل قطار متوجّهٍ من بغداد إلى البصرة، جمع عراقية بدوية بشاب بعمر الثانية والعشرين يدعى مظفر النواب، يلاحظ النوابُ البدويةَ بملامح متعبة وعينين حزينتين وكانت قبالته في المقعد.
لاحظ النواب الذي بدأ حياته مهتمًّا بكتابة الشعر على قصاصات ورقية متناثرة أن دموع البدوية تنهمر على خديها، بل وتغيّر وجهها عند وصول القطار إلى قرية أم الشامات، وخاصة أنها بدأت تلتصق بالنافذة أكثر وتحدّق ببيوتها وأشجارها وأناسها.
دفع الفضول النوابَ لسؤال البدوية عن سبب بكائها، لتحكي له، أن قصة حب جمعتها بابن عمها "حمد" إلا أن الأعراف العشائرية لا تسمح لهما بالزواج بسبب شيوع الخبر في القرية التي ترى الحب منافيًا للقيم العشائرية.
ثم هربت الفتاة من القرية بعد أن سمعت نية أهلها بقتلها، خاصة أن الألسن بدأت تلوك سيرتها وراح القاصي والداني يعيّر أهلها بالقصة، وكثر القيل والقال.
ورغم قساوة حياة التشرد في النصف الأول من القرن العشرين، لم يهتزّ عشق البدوية لحبيبها، ولم تنس تفاصيل قريتها، فكانت بين الحين والآخر ولشدة شوقها وحنينها لأهلها وقريتها تلبس جلبابها، وتركب القطار المارّ من أمام قريتها متستحضرة ذكريات طفولتها.
حرّكت القصة شجون العراقي الشاب وكانت بواكير شعره قد بدأت بالنضوج، فكتب أبياتاً متقطعة تصف المشهد الدرامي، ثائرًا على العادات البالية والتقاليد المجحفة، في وقت لايجرؤ شاعر على تناول مثل هذه القضايا ووذكرِ اسم المحبوب تصريحًا، يقول -وحرف القاف يُلفظ هنا كافاً مخفّفة بحسب لهجة أهل العراق والخليج العربي عموماً:
"مرينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل
وسمعنا دق قهوة وشمينا ريحة هيل
يا ريل صيحة بقهر صيحة عشق يا ريل
هودر هواهم ولك حدر السنابل قِطا".
و"الريل" هو القطار بلهجة جنوبي العراق، و"هودر" أي ذَهَبَ، أما "حدر السنابل قِطا": أي على رسلك أيها القطار فهناك تحت السنابل طيور (القَطا). والقطا/ القطاة، طائر معروف يكثر ذكره في شعر العرب.
القصيدة طويلة يبدؤها بلسان البدوية التي تعبّر عن حبها وحنينها للقرية وساكنيها، لكن الغريب وغير المتوقع أن النواب كتب بعض أبياتها عام 1956، ثم أكملها بعد ثورة تموز عام 1958.
ويقول مظفر في إحدى مقابلاته المتلفزة: "أخذ أحد الأصدقاء القصيدة دون علمي من دفتري وأعطاها للأستاذ "علي الشوك" الذي تلقّفها بكل ترحيب وإعجاب، ثم وجدتُها منشورة في مجلة المثقف اليسارية العراقية، وكانت قد أحدثت ثورة آنذاك".
منذ أن نشر النواب "الريل وحمد" أول قصيدة شعرية له، والتي تتكون من تسعة مقاطع رباعية البناء -36 بيتًا، يلعب فيها النواب لعبة سردية، بدأت معها ملامح نضج تجربته الشعرية، وانتقاله من التجريب والهواية إلى الاحترافية، ناهيك عن ملاحظة أن النواب منح الشعر العامي مهابةً غير مسبوقة، وباعتبار ذلك فقد وقف النقاد أمام نوع جديد من الأدب المكتوب العامي العراقي أو المكتوب باللهجة الجنوبية اللطيفة، مختلفٍ عن القصيدة العامية التقليدية أو الكلاسيكية التي عُرف بها شعراء عراقيون كـ"حسين القسام" و"الملا عبود الكرخي"، خاصة أنه خرج بعاميته عن التقليد، وثار على موضوع يشكل خطًّا أحمر عند المجتمع العراقي، الذي يشكل بعشائريته نسبة كبيرة على الجغرافية العراقية.
لفتت قصيدة "الريل وحمد" اهتمام الشاعر العراقي "سعدي يوسف" ولاقت استحسانه، إذ يقول عنها: "هذه القصيدة تمثل زهرة نادرة في بستان الشعر الشعبي العراقي"، بل واعتبرَها نقلة نوعية من القصيدة العامية التقليدية إلى مناخ جديد، كما ظلّت عبارته تتردد في كل النصوص التي كتبت عن النواب وشعره: "أضع جبين شعري كلّه على طريق الريل وحمد".
حاول النواب معالجة قضية اجتماعية بصوت الضحية واستخدم مفردات خاصة تليق بالمجتمع العشائري وعاميته الرقيقة في الأهوار جنوبي العراق عكس العامية البدوية البغدادية والموصلية الخشنة حسب توصيف النواب في إحدى مقابلاته، إضافة إلى رمزيتها الواضحة التي تعكس العذاب والقهر الاجتماعي والأحداث الواقعية التي عايش النواب شخصياتها، وعن ذلك أشار النواب خلال حديث أجراه عام 1999 في لندن عبر جريدة الشرق الأوسط: "كتبت هذه القصيدة ولم يكن يدور في ذهني أني سأطبعها في يوم ما أو أنها ستنتشر هكذا وتثير هذا الاهتمام، كتبتها لأني شعرت بها. كنت أكتبها في ظروف خاصة واضعًا القلم والورقة تحت وسادتي، ناهضًا ليلاً لأدوّنَ بعض المقاطع في الظلمة ثم أنام".
اشتهرت قصيدة "الريل وحمد" قبل أن تتحول لأغنية يطوف حولها المغنون بغية غنائها، حيث عمّقت بتأثيرها بعد غنائها بالألحان والموسيقا والمقام العراقي المعروف بتأثيره الحزين مشاعرَ المجتمع العراقي وحفرت في ذاكرتهم مأسيَ لتجارب شخصية، خاصة أن النواب كما ذكرنا قد عزف على وتر إثارة الذاكرة الشعبية لشخصيات القصة وأماكنها من البدوية إلى القطار المشارك في صناعة الحدث.
غنّى القصيدة عددٌ من المطربين واشتهرت على لسان المطرب العراقي الشعبي المعروف ليس لدى أبناء العراق فحسب، بل لدى عموم أبناء المشرق العربي، "ياس خضر"، بألحان "طالب القره غولي" عام 1971، ولاقت استحسانًا واسعًا، كما غنتها المطربة "شوقية العطار" بألحان "حميد البصري".
بعد أن أبدع النواب في بلورة الشعر الشعبي العامي الدارج، ليس من خلال الريل وحمد فقط، بل من خلال عدة قصائد أخرى شعبية أكثرها شهرة "مضايف هيل" كتبها بعد مشهدٍ مؤلمٍ حصل أمامه وهو مشهد مقتل الفلاح "صويحب" على يد الإقطاعيين عام 1959 في ريف الجنوب العراقي وتحديدًا قرب نهر الكحلاء.
ويقول الشاعر في مطلع قصيدته:
"مَيلن. لا تنكَطن كحل فوكَ الدمّ
مَيلن. وردة الخزّامة تنكَط سم
جرح صويحب بعطابه ما يلتمّ
لا تفرح أبد منَّه لا يلكطاعي
صويحب من يموت المنجل يداعي".
ورغم إبداع النواب باقتناص الأحداث وتخليدها شعرًا شعبيًا قريبًا من البيئة العراقية، فقد استطاع أيضًا إحياء الشعر الفصيح ولكن ألبسه عباءة سياسية للوقوف مع الطبقة البسيطة، واستخدمه سهمًا مصوّبًا نحو الأنظمة العربية ناقدًا ممارسات الاستبداد التي اتسمت به حكومات العرب، وخاصة في وطنه العراق، فدفع ثمن ذلك في المنافي شريدًا، خاصة بعد تغلغل المبادئ اليسارية إلى فكره واضطراره لمغادرة العراق نحو إيران نتيجة فشل الشيوعيين في منع القوميين إلى الوصول للحكم، وما ترتب على هروبه من مغامرات مأساوية بدأت باعتقاله من المخابرات الإيرانية وهو في طريقه إلى روسيا وتسليمه إلى السلطات العراقية ثم الحكم عليه بالإعدام فالتخفيف للسجن المؤبد وانتهاء بحادثة هروبه الهوليودي من سجن الحلة جنوبي بغداد والاختفاء زمنًا جنوبي العراق في الأهوار حيث الفلاحون والطبقة البسيطة الكادحة والانطلاقة الأولى، إلى أن صدر عفوٌ عامٌ عنه.
من الغزل إلى الشعر الأخطر الموجّه نحو شخصياتٍ نافذةٍ متسلّطةٍ على رقاب الشعوب؛ هكذا مضى النواب مستخدمًا ألفاظًا ممنوعة وتجاوز كل مغلقٍ حتى أصبح شعره بما احتواه من ممنوع إلى مرغوبٍ ومطلوبٍ ومنتَظَرٍ، وما قصيدته التي يقول في مقطع منها واصفًا حكام العرب ببعيدة عن إبداعه:
"أولاد الـ (...) لست خجولًا
حين أصارحكم بحقيقتكم
إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم".
ليحتلّ شعر النواب بعاميته وفصاحته وسياسيته موقعًا متميزًا في دواوين العراقيين، وذاكرتهم الشعبية الحيّة.