يفتتح الصحفي الأميركي جوبي واريك القسم الثاني من الفصل الأول من كتابه "الخط الأحمر" بالعبارة التاليّة "شيء ما وقع من السماء"، وتدور أحداث هذا القسم في سراقب، يوم الـ 29 من أبريل عام 2013، يومها، عصراً، ساد الصمت وتوقف صوت الاشتباك، وظهرت في السماء مروحيّة وحيدة، وقع منها "شيء ما"، لم ينفجر بينما تلاحقه عدسات الهواتف النقالة وحتى حين ارتطام في الأرض، لم يكن هناك أي انفجار.
ثلاثة "أشياء" وقعت من المروحيّة، اثنان منها في مناطق غير مأهولة، أما الثالث، فسقط في باحة منزل مريم الخطيب، ذات الـ 53 عاماً، والتي كانت مع أطفالها متوارية في المنزل إلى حين انتهاء المعارك، وسبق لها، أن حولت قبو المنزل إلى ملجأ مرتجل ضد القنابل، تخزن فيه ما تيسر من مؤن، يومها كان إبراهيم، زوج مريم في المسجد.
سقط "الشيء" من السماء فارتج منزل مريم، لكن شيئاً لم يدمر، وبقيت الجدران قائمة، وحين تسللت للخارج، وجدت نفسها أمام غرض لا يشبه القنبلة، ولا مصنوع من معدن، بل أشبه بصندوق مصنوع من الخشب والجبصين، يحيط به غبار من شدة السقوط، لكن، كان هناك رائحة غريبة، لم تستطع مريم تحديدها، وما حصل، أن عينيها بدأتا تهدران الدمع، وبينما كانت تهم بالعودة، اعتلاها ألم هائل، وكأن جبلاً أطبق على صدرها، ألم يجتح كلّ خليّة ويستفزّ الجهاز العصبيّ إلى الأقصى.
"شيء ما وقع من السماء"
مريم تختنق، تقع على الأرض عاجزةً عن الصراخ أو البكاء أو الكلام، الدموع تغمر وجهها، مريم على وشك الرحيل عن عالمنا دون أن تعلم كيف.
عاد إبراهيم من المسجد ووجد رجالا مدنيين ومسلحين حول منزله، شق طريقه بينهم ليرى على طول المطبخ وغرفة المعيشة مريم، وأطفاله الثلاثة، وآلاء الحامل حينها وأخت مريم، كانوا يختنقون، أعينهم معلقة به، دون القدرة على الكلام، وما كان منه ومن معه إلا حملهم نحو السيارات إلى أقرب نقطة إسعاف، أثناء ذلك، سأل ابنه محمد الذي كان مصادفة في الخارج عما حصل، فأجاب محمد "شيء ما وقع من السماء".
في المشفى الميداني، لم يعلم الأطباء ما يمكن فعله سوى رش المصابين بالمياه، ثم ارتجلوا حلاً، استخدموا حقناً من الأتروفين، الذي يعطى عادة للحيوانات، في حال تعرضهم لتسمم عرضي بسبب المبيدات الحشريّة، إلى جانب وضع أقنعة الأكسجين على أوجه المصابين، لا أحد يعلم ما الذي يحصل، لكن يبدو على المصابين أنهم يغرقون.
عرف الأطباء أن هناك سمّاً من نوع ما، غير معروف، الأعراض تنطبق على تلك الخاصة بالتسمم لكن لا حسم حول ما الذي حصل، أثناء ذلك عاد بعض المصابين إلى التنفس بشكل الطبيعي، عدا آلاء الحامل، ومريم، التي كانت تتنفس ببطء لأكثر من ساعة، لا حركة تنم عنها، سوى رفة جفن كل بضع دقائق.
تسمم كيميائي غير معروف المصدر
قرر إبراهيم نهاية في حركة يائسة اسعاف زوجته وآلاء الحامل إلى مشفى تركيّ في مدينة الريحانيّة، وهو الأقرب بعد الحدود التركيّة السوريّة، المسافة إلى هناك 90 دقيقة بالسيارة، وما إن وصلوا (مريم وزوجها) إلى الحدود، حتى حصل الأسوأ، رفضت شرطة الحدود إدخال مريم، هم أمام حالة تسمم بـ"شيء" غريب، ولا يعرفون كيفية التعامل معه، بالتالي ممنوع دخول مريم إلى الأراضي التركيّة، وبقيت في السيارة، لمدة ساعة، ثم اثنتين إلى حين نجحت الاتصالات والوساطات، و فتحت الحدود أمام مريم، ووصلت إلى المشفى الوطني في مدينة الريحانيّة الساعة 10:30 ليلاً، الفريق الطبي كان مستعداً لاستقبال "ضحايا التسمم"، آلاء الحامل كانت الأقرب للنجاة، لكن مريم، فارقت الحياة خلال المسافة بين الحدود والمشفى، توقف جفناها عن التحرك، كانت الضحية الوحيدة يومها، وتم إعلان موتها من قبل الطبيب التركي، والسبب "تسمم كيميائي غير معروف المصدر ".
وصلت الأخبار إلى المفتشين الدوليين عن وجود "دليل" على استخدام الأسد للأسلحة الكيماويّة، "جثة" موجودة في براد مشفى تركي، فقدت الحياة إثر غاز ما، مريم لم تدفن بعد وفاتها، بل بقيت "مخزّنة"، وإبراهيم الذي عاد إلى سراقب لم يتمكن من إعادتها معه، بل بقيت "تحت الحجر" خوفاً من أن تُسمم ما حولها، فكان مصيرها المشرحة، تحت إمرة السلطات التركيّة، لكن الأهم، هناك دليل مادي على استخدام الأسد للسلاح الكيماوي: جثة.
في التاسع من تموز، مُنع موظفو المشفى في الريحانيّة من دخول المشرحة، التي يشغلها سبعة رجال يرتدون البزات الواقية الخضراء، والأقنعة الجراحية، مع أدوات التشريح والأكياس البلاستيكيّة لأخذ العينات، وبعد استعدادهم وتجهيز أدواتهم، فتح أحدهم واحد من دروج المشرحة، وسحب جثة إلى الخارج.
جثة تحت المبضع
مريم الآن، تحت مبضع وأعين المختصين، فتح الكيس الأزرق الغامق، وظهرت جثتها بعد أكثر شهرين منذ وفاتها، ورفعت ثم وضعت على طاولة التشريح أمام الخبراء- الأطباء: 4 من تركيا، و3 (هندي وصربي وألماني) أتو من هولندا، هم جزء من البعثة المختصة بالتفتيش عن الأسلحة الكيماويّة في سوريا، لكن، مريم متنفخة، جسدها العاري مزرق ومحمر، ملامح وجهها غير واضحة، إذ قررت السلطات التركية تجميدها في حال احتاجوا لتشريحها لاحقاً، وما حصل، أن الرجال السبعة وقبل البدء بالتشريح عليهم حل مشكلة الجليد، كي يعود جلدها ولحمها إلى درجة من الطراوة التي يمكن إثرها تشريحها..
ما حصل بداية، هو استخدام المياه الفاترة والبخاخات المنزلية من أجل رفع حرارة الجثة، بينما الثلاثة غير الأتراك يصورون ويوثقون كل ما يحصل، والهدف هو لا فقط التشريح ومعرفة السبب، بل أيضاً إنتاج أدلة لمعرفة ما حصل، من استخدم الكيماوي؟ ومن يمتلكه ؟ كل هذه الأسئلة كان ينتظر إجابتها السويدي، أكي سيلستورم- Åke Sellström ، قائد بعثة خاصة تابعة للأمم المتحدة هدفها التحري حو استخدام السلاح الكيماوي في سوريا، وجثة مريم كانت الدليل المادي الصلب والأول على ممارسات النظام السوريّ، وعبرها يمكن الإجابة عن السؤال الأهم، من صنّع هذا السلاح؟.
عادت جثة مريم إلى لونها الأصفر، و بدأت مباضع الأطباء تأخذ عينات من جسدها، الكبد، الرئتين، الدماغ، الكليتين، إلى جانب ما يكفي من الشعر والجلد و نسيج العضلات لضبط الحمض النووي ، والتأكد لا حقاً من أن كل العينات تعود إلى الخطيب، وبعد الانتهاء، أرسلت العينات إلى مخابر مستقلة في تركيا وسويسرا و هولندا، الخطيب قدمت شهادتها، وعادت إلى درج المشرحة، والتجميد، والنتيجة التي ظهرت لاحقاً، مريم قتلت بغاز السارين، الذي تتطابق تركيبته مع تلك التي يصنعها النظام السوريّ والمعروفة للولايات المتحدة منذ الثمانينات.
هوامش :
لا نعلم بدقة ما الذي حصل بجثة مريم الخطيب هل ما زالت في براد المشفى؟ هل تم تسليمها لزوجها؟ هل دفنت ؟ أم هل عادت للتجميد بانتظار شهادة جديدة؟
يشير واريك إلى أن المعلومات التي حصل عليها بخصوص الخطيب نتاج مقابلات مكثّفة مع أقربائها والأطباء الأتراك، إلى جانب مشاهدة الفيديوهات المسجّلة لعملية التشريح.
هذا النص ترجمة واختزال لحكاية مريم المذكورة في الكتاب سابق الذكر.