بكل شغف، يتذكر أحد أصحاب الأعمال مخبزه والمقهى الذي أقامه في مدينة أنطاكيا الأثرية في تركيا، حيث كان عماله يعدون الخبز والكعك والحلويات، والأهالي يجتمعون لتناول طعام الإفطار واحتساء القهوة والبوظة عنده.
إلا أن كل ذلك اختفى في شهر شباط، وضاع بعدما ضرب زلزالان مدمران الجنوب التركي فدمرا البناء الذي أقيم فيه المخبز، وحولا معظم أنحاء الحي إلى مناطق غير صالحة للسكن.
"لا نفكر بالرحيل"
بعد مرور سبعة أشهر على ذلك الحدث، عاد المشروع التجاري لنشاطه، ولكن بشكل محدود جداً، إذ في كشك ضيق صغير يشبه حاوية الشحن المحشورة في زاوية قذرة بالقرب من أحد الطرقات السريعة، أصبح جانار آريس واثنان من زملائه يعدون كمية صغيرة من الخبز ويستقبلون الزبائن على طاولة متهالكة وضعت أمام الواجهة، ويخطط هؤلاء للبقاء هناك إلى تعود مظاهر الحياة لمدينتهم وبعدها سيقدمون تشكيلة أكبر من الحلويات، وعن ذلك يقول آريس: "في حال وجود حي بدأ يتطور، وشرع الناس يستقرون فيه، فسنفتح أبوابنا من جديد، لأننا لا نفكر بالرحيل عن المدينة".
بعد زلزالي 6 من شباط اللذين قتلا أكثر من خمسين ألف إنسان في جنوبي تركيا، ودمرا الآلاف من المباني في 11 ولاية، تعهد الرئيس رجب طيب أردوغان ببناء المناطق المدمرة بأقصى سرعة.
وخلال أشهر، بدأت عمليات البناء بشكل رسمي في عدد من المواقع، ولكن أثناء زيارة لمدينة أنطاكيا التي أصبحت مدمرة اليوم، لم تظهر أية مؤشرات على عمليات إعادة الإعمار، إذ ما تزال المدينة المدمرة مهدمة، وهذا ما يجعل مستقبل أهلها مجهولاً.
نجمية فلز الثانية من اليسار، وهي تبكي وتتذكر ابنتها وصهرها وحفيدتها الذين قضى عليهم الزلزال
جانان إيجير وهي تطهو طعام الغداء فوق مصدر نار مفتوح
في عموم المدينة، تمتد على طول الطريق أبراج طابقية هجرها أصحابها بعدما تساقطت جدرانها، في حين تضرب الحفارات الآلية في المباني المدمرة، فتحيلها إلى ركام قبل أن تنقلها فتصدر عجاجاً من الغبار صار يخيم على المدينة ويخنق الناس. إلا أن هناك أحياء مسحت عن بكرة أبيها، باستثناء أكوام الأنقاض التي بقيت منها، والتي يغزوها النباشون بحثاً عن قطع الخردة.
يقول محمد إيجير، 48 عاماً، وهو سائق حافلة عاطل عن العمل، أثناء جلوسه خارج بيته المتواضع، في الوقت الذي أخذت فيه زوجته تقلي الباذنجان فوق نار الحطب: "نعيش بين التراب والغبار الذي يقتلنا".
دمر الزلزال كل الأبنية في منطقته، فاستحالت اليوم إلى مساحة كبيرة من الركام. وأثناء غروب الشمس، تخللت أضواء قصية لعدد محدود من الشقق السكنية الظلام الدامس، بما أن الأهالي رحلوا عن بقية البيوت في المدينة.
تبدو معظم مظاهر الحياة في المدينة وكأنها مؤقتة، إذ ينام الأهالي في الخيام خارج بيوتهم المدمرة، في حين تعيش أعداد كبيرة من الناس في بيوت جاهزة مسبقة الصنع تشبه حاويات الشحن التي رصت بجانب بعضها البعض فتوسعت لتتحول إلى مدن من بيوت مؤلفة من طابق واحد، إلا أن الحكومة تمدها بالكهرباء والماء. وحول تلك البيوت، انتشرت محال صنعت هي الأخرى من بيوت مسبقة الصنع تمتد مثل عربات القطار على طول الشوارع الرئيسية، وبداخلها، يحصل التجار لقمة عيشهم عبر عرض كل شيء، بدءاً من الحلاقة، مروراً بتعليم قيادة السيارة، وصولاً إلى الأحذية.
يبيع أحد المحال لوازم الحيوانات الأليفة، ويخبرنا صاحبه، سلمان أنلار، بأن الزلزال دمر بيته ومتجر الحيوانات الأليفة الذي كان يديره، ولهذا أصبحت أسرته تنام في خيمة. وصار اليوم يبيع طيوراً بما أن ذلك يعتبر وسيلة رخيصة يمكن من خلالها للأهالي الذين خسروا كل شيء أن يضفوا لمسة جمال على حياتهم، ويتابع أنلار بالقول: "في وجه كل هذه الضغوط والتوتر، تبدو الطيور الخيار الأفضل".
مسجد أنطاكيا من الداخل بعدما دمره زلزال شباط
عمال الهدم في أنطاكيا
مدينة أثرية عريقة
تعتبر هذه المساكن المؤقتة بمثابة تغيير كبير طرأ على أنطاكيا، تلك المدينة التي تمتد جذورها لآلاف السنين في التاريخ، وتختلط فيها الكنائس بالمساجد لتذكرنا بماض كانت فيه هذه المدينة قبلة للعالم بأسره، وبتلك الأيام التي كان فيها الناس يشترون الحلويات والأجبان من سوق تعلوه أقواس حجرية جميلة، في حين كانت نبتة الجهنمية (المجنونة) ذات الأزهار البنفسجية تتعرش على جدران البيوت المبنية من الحجر. ولهذا نجد الأهالي في عشرات المقابلات وهم يبكون خسارتهم لمدينتهم، ويعبرون عن أملهم بالسعي للاحتفاظ بروحها بصرف النظر عن البديل الذي سيحل محلها، إذ يقول أيهان كارا، مؤسس جمعية تهدف لمعرفة رأي الأهالي حول عملية إعادة إعمار المدينة: "لن ترجع لنا روح المدينة التي كانت موجودة قبل الزلزال، لذا يجب أن نكون واقعيين، لأن الكثير من الأمور ستتغير، إلا أننا نصر على احتفاظ هذه المدينة بروحها".
إن الوتيرة البطيئة للتعافي من الزلزال في تركيا التي تتمتع بحكومة مستقرة ويعتبر اقتصادها من بين أكبر 20 اقتصاداً في العالم، تعكس توقعات سيئة بالنسبة لأماكن أخرى ضربتها كوارث عظيمة مؤخراً، إذ في المغرب، تعرضت المناطق الجبلية لزلزال شديد قتل فيه الآلاف من الناس الذين أهملتهم الحكومة المركزية منذ أمد بعيد. أما في ليبيا، فقد أثر الاضطراب السياسي والفساد على استجابة الإغاثة بل وتسببا بإعاقتها بعد هطل أمطار غزيرة تسببت بانهيار سدين قديمين، وهذا ما أدى إلى حدوث سيل مدمر اجتاح مدينة درنة.
الكبار وهم يوصلون الأطفال إلى مدرستهم المؤقتة في أحد المخيمات التي أقيمت للنازحين بالقرب من أنطاكيا
المعلمات يجمعن الكتب للطلاب في أول يوم بالمدرسة
وتيرة بطيئة
أعلن الرئيس أردوغان عن خطط كبرى خصصت لمنطقة الزلزال، إلا أن التقدم فيها يسير ببطء، فقد وعدت الحكومة ببناء 850 ألف وحدة جديدة للسكن والمشاريع التجارية في الولايات المتضررة، إلا أن البناء بدأ على ربع تلك الوحدات فقط، بحسب ما أعلنته وزارة الشؤون الحضرية والبيئية.
مايزال 1.9 مليون نسمة نازحين في مختلف الولايات المتضررة، بينهم 1.3 مليون يحصلون على مساعدات حكومية تمكنهم من استئجار بيوت في مناطق أخرى، في حين ما يزال أكثر من 500 ألف يعيشون في 330 مدينة مؤلفة من بيوت مسبقة الصنع، بحسب ما أعلنته الوزارة.
وضعت الحكومة التركية برامج لمساعدة من خسروا بيوتهم، شملت منحاً وتمويلاً بكلفة ضئيلة وذلك لمساعدة الناس على إعادة بناء بيوتهم، إلا أن أغلب ضحايا الزلزال يخبروننا بأنهم لم يستوعبوا آلية العملية، أو بأن الكارثة جعلتهم معوزين لدرجة لم تعد معها المعونة الحكومية تسد شيئاً.
تقول أيليم داهال، 42 عاماً، وهي تجلس خارج الحاوية التي أصبحت تؤوي أسرتها المؤلفة من أربعة أشخاص: "الأمر يتوقف على المال، والآن ليس لدينا المال".
قرية تقع شمالي أنطاكيا أصبحت اليوم تعج بالشاحنات والرافعات التي تعمل على مشروع سكني تموله الحكومة
مهندسون يتوقعون أن يتم إسكان النازحين من أهالي أنطاكيا في هذا البناء الجديد
تخبرنا إيليم بأن بيتهم انهار فتشردت أسرتها، كما دمر الزلزال ورشة التنجيد التي كانت لديهم، فأصبحوا بلا عمل، وعلى الرغم من ضيق المأوى الذي يعيشون فيه اليوم، إلا أنهم متأكدون على الأقل من أنه لن ينهار حال وقوع أي زلزال.
أبطأ حجم الدمار في ولاية هاتاي وعاصمتها أنطاكيا بما أنها أكبر مدينة في الولاية، من جهود التعافي، فقد خططت الحكومة التركية لبناء 254 ألف وحدة جديدة في هاتاي، ولكن قبل كل شيء لابد من إزالة المباني المدمرة وأكوام الأنقاض من المواقع.
في مقابلة مع والي هاتاي، لطفي سافاش، ذكر هذا الرجل بأنهم حددوا جدولاً زمنياً لهدم 38 ألف مبنى في الولاية، إلا أن عمليات الهدم لم تطل سوى نصف تلك المباني.
في حين تكشف مظاهر الحياة الأخرى في المدينة بأن الأهالي يعانون وسط الدمار، إذ أصبح أصحاب المعامل يعانون من صعوبة العثور على عمال بسبب هروب هؤلاء إلى مناطق أخرى في تركيا، ثم إن الزلزال دمر الكثير من المدارس، ما جعل الأهالي النازحين يعانون وهم يحاولون تسجيل أولادهم في مدارس قريبة من مناطق سكنهم الجديد.
في أول يوم مدرسي ببداية الشهر الماضي، تقاطر الأهالي والأطفال أمام مبنى جديد مسبق الصنع أقيم بالقرب من مخيم مؤلف من بيوت مسبقة الصنع في منطقة دفنة وهي منطقة قريبة من أنطاكيا تعرضت لدمار كبير. هناك يكتشف المرء بأن المساحة المحيطة بهذا البناء الأبيض لا عشب فيها ولا أشجار ولا أية مظاهر أو لوحات تجعل المرء يحس أنه في مدرسة، ومع ذلك سجل فيها نحو 800 طفل حسبما ذكر المسؤولون عن إدارتها، ومعظمهم يعيشون في دور إيواء مصنوعة من بيوت مسبقة الصنع في الجوار، وينطبق الأمر نفسه على أغلب المدرسين والمدرسات.
بعض أهالي أنطاكيا باتوا يعيشون اليوم في ظل بيوتهم المدمرة
متجر يبيع أوراق اليانصيب داخل حاوية أقيمت وسط مساحات خاوية في أنطاكيا
وضع أشد وطأة على اللاجئين
تخبرنا هوليا كاراداش وهي أم لثلاثة أطفال بأن مدرسة أولادها نجت من الزلزال، لكنها لا تستطيع تحمل كلفة نقلهم بالحافلة إلى هناك، ولهذا سجلتهم في المدرسة التي أقيمت في بناء مسبق الصنع، على الرغم من الحرارة الشديدة فيها، وافتقارها إلى حواسيب وساحات مخصصة للعب، وتعلق على ذلك بقولها: "ها هم يلعبون في الشارع".
يزداد الوضع سوءاً بالنسبة للاجئين السوريين المقيمين في أنطاكيا، بما أن معظمهم كانوا أفقر من غيرهم قبل الزلزال، وأصبحوا اليوم يعانون وهم يبحثون عن أي مساعدة حكومية.
استقرت 250 أسرة سورية في مخيمات مؤقتة تناثرت في أحد بساتين الزيتون القريبة من حيهم السابق الذي دمر عن بكرة أبيه، وعن تلك الأوضاع يخبرنا أيمن عمر، 48 عاماً، والذي يعيش هو وأسرته المؤلفة من ثمانية أفراد في المخيم، فيقول: "عندما تمطر نغرق في الداخل".
تمدهم الحكومة بالكهرباء والماء، في حين بنت لهم منظمات إغاثية مراحيض، إلا أن الأهالي يجب عليهم أن يتدبروا أمورهم بين الأفاعي والجرذان والحشرات، بحسب ما ذكره عمر الذي سجل أولاده في المدرسة قبل أن يعرف بأن من حق أسرته الانتقال إلى مدينة مؤلفة من بيوت مسبقة الصنع، وعن ذلك يقول: "إذا كان باستطاعتهم نقلنا إلى بيوت مسبقة الصنع، فسيصبح المكان مزدحماً، إلا أنه أنظف من هذا".
أطفال سوريون يلعبون بالقرب من مخيم في أنطاكيا
عائلات سورية وهي تحصل على اللوازم المدرسية في مخيم للنازحين بأنطاكيا
ما يزال العمل جارياً على عدد من الخطط المستقبلية بشأن أنطاكيا ومواقعها الأثرية، في حين يرتفع أحد الحلول في قرية غولديرين التي تبعد عن أنطاكيا مسافة 15 كيلومتراً تقريباً.
تحولت هذه القرية إلى موقع واسع للبناء، وفيه تقوم رافعات كبيرة بحمل اللوازم، كما يقوم العمال بصب الخرسانة لبناء 122 برجاً جديداً يحتوي جميعها على 2300 شقة سكنية.
يخبرنا المهندسون في الموقع بأن عملية البناء تتم على أرض صلبة بعيداً عن خط الصدع الذي يمتد جنوب شرقي تركيا، وهذه الأبنية التي يجري العمل على بنائها ستكون مقاومة للزلازل، ويتوقع المهندسون أن ينتقل إلى تلك المساكن معظم أهالي أنطاكيا، وستضاف إلى تلك الأبنية أسواق كبيرة، وعيادات طبية ومقاه وحدائق.
تخبرنا بيازا سيبين وهي مهندسة معمارية متخصصة بالتصميم الداخلي في هذا المشروع بأن الحياة في هذه المجمعات مختلفة تمام الاختلاف عما عهده الأهالي، لكنها ترى بأن الظروف أصبحت صعبة جداً منذ أن وقع الزلزال، لذا من الصعب على الأهالي أن يتكيفوا بسرعة، وتضيف: "بات الناس مشتاقين لحياة البيت، وأنا على يقين من أن الأهالي سيحملون معهم روح هاتاي إلى هنا".
الركام في هاتاي
المصدر: The New York Times