مدن مدمرة واقتصاد منهار ومجتمعات منهكة، وحرائق تطول الجميع بعيدا عن انتماءاتهم السياسية والدينية، في وقت لم تعد فيه سوريا مفيدة في وضعها الراهن سوى لاستجرار الصراعات، فهي ليست كما أرادها النظام وإيران، ولا كما أرادها الروس، والأهم أنها لم تعد مفيدة للسوريين أنفسهم.
سجلت الأمم المتحدة العام الماضي 2019، حلب كـ أكبر المدن المتضررة جراء قصف النظام وروسيا، حيث وصل عدد المباني المدمرة فيها قرابة 36 ألف مبنى، تلتها غوطة دمشق الشرقية بـ 35 ألف مبنى مدمر.
ومن ثم جاءت حمص في المرتبة الثالثة، ثم الرقة وحماة ودير الزور بالإضافة لمخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين. وأشارت الأمم المتحدة إلى أن كلفة إعادة الإعمار ستبلغ 400 مليار دولار.
كما يعاني الاقتصاد في سوريا من مشكلات كبيرة ليس بسبب العقوبات الأميركية والدولية فحسب، ولكن أيضاً نتيجة تداعيات الانهيار المالي في لبنان المجاور الذي يعاني من شُح الدولار، وسيطرة أركان النظام العسكرية والأمنية على المفاصل الاقتصادية، وعملهم في تجارة الحرب التي تعود بالأموال الهائلة عليهم.
سوريا.. جزر منعزلة
يقول الباحث الاقتصادي د.عارف دليلة لـ موقع تلفزيون سوريا: أظن أننا أصبحنا أمام سؤال؛ ماهو المفيد لأي من قوى الأمر الواقع المسيطرة ؟ وليس فقط لما يخص النظام.. كيف تكون الجزيرة مفيدة وهي منعزلة عن بقية مناطق سوريا؟ وكيف يكون الشمال مفيدا خارج مناطق سوريا الأخرى؟".
ويتابع قائلا: "وبالأحرى، كيف يمكن للمناطق التي يزعم النظام أنها تخضع لسيطرته، أو للمناطق الجنوبية أن تكون مفيدة وهي منقطعة عن الشمال والشرق؟ ولا أغفل عن وجود علاقات اقتصادية بين هذه المناطق عبر الحواجز والمعابر والوسطاء وأثرياء التشرذم والواقع الراهن ! ولكن كم هي منقوصة هذه الفوائد لكل طرف بسبب هذا التقطع مقارنة بالقيم الإجمالية لها على الصعيد الوطني الموحد ضمن نظام جديد ديمقراطي ؟".
ماذا عن سوريا المفيدة؟
أطلق بشار الأسد مصطلح سوريا "المفيدة" على مناطق غرب سوريا والمناطق التي تمتد من دمشق إلى القلمون وحمص ودرعا وحماة، وصولاً إلى طرطوس واللاذقية وحتى الحدود التركية، وبذلك ضمنت روسيا نفوذها على المتوسط. وكان الروس قبل أشهر قد أبدوا انزعاجهم من وصول إيران إلى المتوسط عند الإعلان عن توليهم مرفأ اللاذقية.
لكن الباحث الاقتصادي كرم شعار يقول لموقع تلفزيون سوريا: إن هذه النظرة "ضيقة للغاية"، حيث تكمن معظم الثروات الطبيعية في سوريا في الشمال الشرقي، بما في ذلك النفط والحبوب والقطن. ويتابع "فعلى سبيل المثال، بحسب أرقام صندوق النقد الدولي، ساهم النفط المستخرج بغالبه من المناطق الواقعة خارج "سوريا المفيدة" لوحده بما يتراوح بين 17 و 27% من واردات النظام في الأعوام الثلاث قبل الثورة السورية 2008-2010".
ولفت إلى أن "ضعف تكامل الاقتصاد السوري بسبب الحرب قد أثر على جميع الأطراف. فعلى سبيل المثال، تعاني مناطق الإدارة الذاتية حاليا من ضعف قدرتها على تكرير ما تستخرجه من النفط بسبب وجود مصفاتي سوريا في مناطق سيطرة النظام، وفي المقابل يعاني النظام من قلة النفط الخام على الرغم من مقدرته على تكريره. وعلى الرغم من كون إدلب غنيةً بالثروات الزراعية كالزيتون والفستق وكذلك الثروات الحيوانية، أعتقد أن التسابق على السيطرة عليها حاليًا دافعه سياسي بالدرجة الأولى وذلك بغرض الحد من النفوذ التركي في المنطقة وإعادتها إلى سيطرة النظام".
اقرأ أيضا: أيضاً.. مرفأ للحرس الثوري في طرطوس!
هل نجحت السياسة الروسية؟
حاولت روسيا منذ تدخلها العسكري إلى جانب نظام الأسد عام 2015، أن تحقق جملة الأهداف لكن يبدو أن الهدف الروسي الأساسي هو تحويل سوريا إلى منصة انطلاق لاستعادة المجد السوفييتي السابق كقوة ثانية في العالم، كما يرى الباحث والكاتب ماجد علوش، ويضيف في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، "أن روسيا مستفيدة من هشاشة ظاهرية في السياسة الأميركية اتجاه سوريا والشرق الأوسط عامة، وإذا كان هذا هو الهدف الروسي الأساسي تكون الأداة العملية لتحقيقه هي الحفاظ على الوجود القانوني للدولة السورية بغض النظر عن مضامين هذا الوجود وهو ما فعلته واقعيا لذلك من الواضح أنها لم تكن بصدد إحداث أي تَغيُّر ناهيك عن التغيير السياسي لا في بنية النظام القائم ولا في بنية الدولة والمجتمع فتركت الجميع يتدبر أمره بنفسه من جهة وشجعت عمليات الخلخلة والتصدع الداخلي في الجانبين".
ويشير "علوش" إلى أن ورسيا استمالت قوى إقليمية طامحة ومنحتها امتيازات أو ساعدتها على تحسين مواقعها مرتكزة الى فكرة مفادها أن "المشروعية في النهاية هي للقوى السورية المحلية التي يتوجب إنهاكها أما الأدوات الإقليمية فيمكن التخلص منها بطرق مختلفة وبسهولة تحت ذريعة السيادة الوطنية ووحدة التراب الوطني وما شابه .. ".
"استخدمت روسيا أقذر أشكال الحرب و أكثرها همجية" والقوة العسكرية المتفوقة والتعاون السياسي الإقليمي. وهي بذلك استطاعت الحفاظ على أداة تحقيق الهدف السياسي وهو حماية الوجود القانوني للدولة السورية وثبتت وجودها العسكري في سوريا، لكنها وبحسب "علوش" صُدِمت بالنظرة الغربية العامة والأميركية إلى سوريا باعتبارها تحتل ذيل قائمة الاهتمام وليس كما كان يشاع باعتبارها قلب المنطقة، "لذلك اكتشفوا أنها لا تصلح كمنصة انطلاق للمناكفة الدولية لكنه اكتشاف جاء متأخراً وَضَعَهم أمام خيارين أحلاهما مر ، إما التسليم والاستسلام أو الانتظار المحفوف بالمفاجآت ويبدو أنهم اختاروا الثاني ، ويعملون على تقليم أظافر الجميع للحفاظ على تفوقهم بانتظار ما سيحدث".
اقرأ أيضا: شرقي المتوسط.. ثروة تثير صراعاً دولياً ما حصة سوريا؟
سوريا الغنية بيد قسد
يوضح "علوش" أن قوات سوريا الديمقراطية بدعم أميركي أمسكت بسوريا الغنية بحقول النفط شمال شرقي البلاد، حيث استطاعت واشنطن أن تخط مسارا "كارثيا" بالنسبة للروس من خلال قانون قيصر وتعزيز العقوبات على النظام، أو من خلال التفاهم مع الممولين المفترضين لإعادة الاعمار أي الاتحاد الأوروبي والخليج، على ربط إعادة الاعمار بالحل السياسي، كما فشلت الجهود الروسية بتجسير العلاقة بين النظام والإقليم بسبب الاشتراطات الإقليمية بفصم العلاقة بين نظام الأسد وإيران.
سوريا الحالية عبء على الجميع
تتخوف روسيا من انفجار الوضع في المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام، تحت ضغط الانهيار الاقتصادي الشامل وأيضا من سياسة شفير الهاوية التي يتبعونها مع الأتراك في الشمال السوري، سعي الأتراك إلى دمج الملفات الإقليمية المتفاهم والمختلف عليها مع الروس وإصرار الروس على فصل تلك الملفات.
ويتابع علوش، "الأميركيون أيضا قلقون من انهيار الوضع شرق الفرات بسبب سيطرة الأكراد على مفاصل القرار في قسد من جهة والنزعة الأيديولوجية لدى هذا الفصيل أيضا والتي لا تبدو منسجمة مع التوجه العام الثقافي والاجتماعي في المنطقة مما يثر الكثير من ردود الفعل غير المرغوبة والمقلقة إضافة إلى سعي الجميع إلى نيل حصة من الوجود الاجتماعي شرق الفرات يسمح له بالتغلغل وممارسة دور . الأمر الذي يعيق بناء قوة محلية منسجمة وفاعلة أيضا".
ويضيف "علوش" أن الإيرانيين يرون نهاية وجودهم الرسمي في سوريا، لذلك يحثون الخطى لخلق تشكيلات اجتماعية ترتبط بهم عقائديا باعتبار ذلك الوسيلة الوحيدة لاستمرار وجودهم بعد طردهم رسميا من البلاد.
ويشدد على أن "الوضع السوري بشكله العام عبء على الجميع ، والكل متخوف من المفاجآت غير السارة.. لكن الأثمان المدفوعة لا تزال في الحد الأدنى والقوى المحلية على الجانبين تم التحكم بها مما قلل مخاطر الوضع السوري على الأمن الإقليمي والدولي، فجميع القوى المتدخلة مستعدة للصبر على أمل تحقيق مكسب إضافي في لحظة ضعف عند الآخرين".
اقرأ أيضا: "انتصارات الأسد" بلا قيمة مع انهيار الاقتصاد والعقوبات الأميركية