مختارات القصة القصيرة، زاوية أسبوعية يقدّمها قسم الثقافة للقرّاء كل يوم جمعة، وهي مخصصة لعرض قصة قصيرة من تأليف أديبات وأدباء سوريين.
عن القصة والكاتب
"تصريحات مجنون" قصة قصيرة من المجموعة القصصية "حالات سرّية" للكاتب والأديب السوري محمد جمال طحان.
والطحان، باحث وأديب سوري من مواليد حلب 1957. حاصل على دكتوراه في الفلسفة. متخصّص في الفكر العربي الحديث، ويعد من دارسي فكر عبد الرحمن الكواكبي البارزين.
من مؤلّفاته البحثية: "الاستبداد وبدائله في الفكر العربي" (1992)، و"على هامش التجديد" (1996)، و"المثقِّف وديموقراطية العبيد" (2002)، و"عودة الكواكبي" (2006)، و"دعاة وأدعياء معاصرون" (2015).
أشرف على تحقيق وإصدار "الأعمال الكاملة للكواكبي" (1995).
من إصداراته الأدبية: "حالات سرية" (2008)، و"شؤون يومية" (2014) و"مذكّرات كرسي" (2015)، و"غيابات الجب"، رواية، (2021). ونال العديد من الجوائز في الشعر والقصة القصيرة.
القصة
في زيارتي الأخيرة لمشفى الأمراض العقلية، تقدّم إليّ أحد النزلاء قائلاً:
يا أخ.. في وجهك سمات تبشّر بالخير وتدلّ على مدى أناتك وصبرك. تأمّل الرجل ظفر إبهامه برهة ثم تابع القول: هل لديك القدرة على أن تكون صريحاً.. لابأس.. أفهم صمتك وافتعال المجاملة حين تكون في مواجهة العالم الخارجي.. عالم العقلاء الذين لديهم القدرة على إيذائك وهم يبتسمون في وجهك. اليوم الخميس.. وهذا شهر كانون الثاني الذي عانى فيه الموظفون كثيراً بسبب مصروفات العيد.. ولكنهم يتوهمون السرور لأن شباط /28/ يوما فقط هذا العام.. إنه شهر قصير الذيل، ويوفر مصروفات أربعة أيام.
نظر إليّ بهدوء وقال بصوت منخفض: أليس ما قلته صحيحاً؟
قلت: بلى. قال: يعني عرفت العام والشهر واليوم، فهل أنا مجنون؟
أجبته وأنا أبتلع لعابي: بل إنك أكثر من عاقل، ولكن.. قل لي ماذا تعرف عن الزمان؟
قال بسرعة: نعيب زماننا والعيب فينا. وفجأة علا صوته وهو يسألني: كن صادقاً: هل أنا مجنون؟ إنني عاقل.. ولكن وجودي هنا يوفر عملاً للأطباء لذلك لا يخرجونني… أريد أن أسألك سؤالاً: من الذي قص ذيل شباط حتى غدا قصيراً؟ ولم ينتظر الإجابة بل أردف سؤاله بسؤال آخر: هل تعرف معنى نابليون؟
إنه ناب الفهد، لكنهم لم يشاؤوا أن يترجموه كي لا ينكشف أمرهم ولا تظهر مقاصدهم في نهش جسد أمتنا. ياأخي الترجمة تسبب لهم مشكلة، خذ مثلاً بوش.. يعني فاضي.. يعني الفوارغ.. أي ما يجب أن نرميه.. ولكننا نستقبله ونقيم له الولائم ونعوّل عليه في حل مشكلاتنا.
الحق أن الرجل أربكني ولم يترك لي فرصة للكلام، بل تابع حديثاً متتابعاً لم أستطع التركيز إلاّ على بعضه، ولكنني سمعته يقول: أتعرف المعري؟.. أنا أكثر منه تشدداً.. هو لا يأكل اللحوم.. ولكنني لا آكل اللحوم ولا أجني على كثير من الفاكهة.. التفاح الأحمر يذكّرني بالخدود.. الكرز يشبه الـ… والدراق أيضاً.. تعرف ماذا يشبه.. كيف أتدنّى للوحشية وألتهم مايجب أن نبقيه للتأمل. صمت برهة.. أخرج زجاجة من جيبه.. سكب لي ملعقة من شيء يشبه الشاي وقال: اشرب.. هذه ملعقة ويسكي.. الويسكي يقوّي القلب.. سمِّ بالله وخذ غبّة منه. الكلب يلعق العظام.. لماذا؟ لكي ينظّفها من اللحم والدم، وحين تعود للحياة.. تعود نظيفة.
تربّع على الأرض وقال: اقعد أستاذ اقعد.. وأجبني بصراحة: هل في كلامي ما يدلّ على أنني مجنون؟
قلت له وأنا أتوجّس: يعني.. يوجد شيء من هذا.
قال: هااا.. أنا مجنون وأحكي (شندي بندي) ومن المعلوم أن المجنون لا يؤاخذ.. مجنون رسمي.. خذ مني وارمِ بالبحر: بعض الحكومات تخاف من الخوض في الحديث عن الديمقراطية والحرية والعلمانية والمجتمع المدني… بل تخاف من الحديث عن الفساد المنتشر فيها. وفي الحقيقة، هذه الحكومات لا تعرف ألفباء السياسة.. الدول العظمى تترك للناس حرية القول كي تمنع الانفجار. الإسكات يؤدي إلى الهمس وإلى تشكيل بؤر تناهض الحكومة، بينما الإباحة تمارس فعل التنفيس فيكتفي الناس بإفراغ شحناتهم الانفعالية بالقول ولا يمتد ذلك إلى الفعل.
إذا كنت سياسياً ناجحاً فهذا يعني أنك تفعل ما تريده أنت وتجعل الآخرين يظنّون أنك تستجيب لكل مطالبهم.
نظر الرجل في وجهي برهة وهو يتأمل ملامحي ثم قال:
ولكن.. مع من أتكلم؟.. عاقل يحكي ومجنون يسمع.