لا يمتلك خطاب الحقد المتنامي على السوريين في لبنان أي وجاهة. أخطر سماته تتجلى في ما يظهر عليه من عوامل العجز عن الانتساب إلى خطاب واضح المعالم والبنى.
قيل إنه عنصرية، ولكن التمعن في أشكال التعبير عنه تظهر عجزه عن تكوين حد أدنى من المرجعية النظرية التي تقوم عليها كل الأفكار العنصرية، إذ إن تفشيه في المجال اللبناني يكشف أنه فعل أعمى بلا مرجعيات وبلا خيال، يخرج إلى العلن مشحونا بكم هائل من الهشاشة والتفاهة لدرجة أنه غير قادر على تقديم نفسه بوصفه عنصرية.
عدم انتظام تلك الحملات في إطار مرجعي يمكن رده إلى بنى مألوفة وواضحة، يوسع مدى خطورته، إذ يصبح أقرب إلى أن يكون فعلا بدائيا غرائزيا لا يمكن مقاربته بأدوات السياسة والتعقل.
موجة العداء الموجهة ضد السوريين تم التمهيد لها بسلاسل طويلة من المحن والأزمات المصنّعة، التي أخرجت اللبنانيين من القدرة على تدبير يومياتهم وفرضت الكراهية كنظام تواصل وتخاطب وحيد مع الذات ومع الآخر.
من هنا تنفجر الكراهية ضد السوريين، التي شرعت في إنتاج موجات عنف علنية متباهية وفخورة بوصفها تعبيرا واضحا عن نزعة كره الذات واحتقارها، فما يتداوله اللبنانيون بين بعضهم البعض هو الشكل المؤسس لتعاملهم مع السوريين.
الفارق الوحيد أن اللبناني حين يمارس كراهيته ضد طرف لبناني آخر فإن الأمر يتخذ شكل صراع يتبادل فيه الطرفان الأذية، ولكنه حين يتوجه إلى السوري فإنه يكون اعتداء خالصا ومجانيا وبلا عواقب، ويحظى بنوع من التأييد الاجتماعي، لا بل وأكثر من ذلك بالتغطية السياسية والتبرير الأخلاقي.
لذا لا يكون العنف ضد السوريين في التلقي العام جريمة بل قصة عن حب البلاد والدفاع عنها. أجساد السوريين المعنفة وكراماتهم المهدورة صارت عناوين وطنية لبنانية لم تعرف يوما ثباتا واستقرارا على عناوين موحدة وواضحة المعالم.
خطر هذا النزوع الذي انفجر في توقيت مبرمج ومنظم يتجلى في أنه يغلق أبواب المستقبل أمام اللبنانيين، ويجعل البلاد عاجزة عن إنتاج ظروف تجعل منها طرفا مشمولا بخريطة الحلول والتسويات التي يجري العمل عليها على كل الأصعدة وتجعلها أسيرة موجة ردود فعل وانتقام فوق سياسية مع شعب لا يمكن بأي حال من الأحوال فك تشابك المصائر معه.
استعداء السوريين وشرعنة الاعتداء عليهم مدخل لاستمرار الأزمات، يناط به حاليا، من ضمن سلسلة واسعة من الأدوار، لعب دور خلق شعور وهمي بالانتصار في أوساط جماهير الممانعة بعد الإعلان عن عودة سوريا إلى الجامعة العربية ومشاركتها في القمة العربية.
أي مسار حل يشترط من دون أدنى شك أن يكون لبنان بلدا طبيعيا، ما يعني مباشرة ألا دور ممكنا لحزب الله وسلطات الفساد العام التي نمت تحت رعايته في مستقبله
من يراقب مسار العودة ويقرأ ظروفه وملابساته، يعلم أن ذلك الذي يعود إلى ما يسمى الحضن العربي، ليس النظام السوري الذي نعرفه، بل نسخة منزوعة الدسم والوزن منه، تستدعى لكي تكون شاهدة على نهاية زمن سوريا الأسد والشروع في صناعة سوريا جديدة لا يمكن أن تكون في أسوأ الاحتمالات إلا صيغة نافية للزمن الأسدي وعناوينه.
وعليه فإن الرهان على خلق نظام الأزمات الدائمة في لبنان ليس توظيفا لبنية انتصار ممانع بل يعكس نوعا من الخوف العميق، وخصوصا أن أميركا تطرح قانون تجريم التطبيع مع الأسد على طاولة البحث وما يزال قانون قيصر كذلك ساري المفعول.
وكل ذلك يقول إن الإطار الدبلوماسي الذي يوحي بتفاهم مع الأسد لا يعدو كونه مدخلا لترتيبات أخرى ذات طابع أكثر شمولية، لا يمكنه معها أن يكون فاعلا بنفسه ومن خلال أدوات ووسائل تأثير تنتسب إليه بالكامل، بل يكاد يكون في أحسن الأحوال صندوق بريد.
وإذا كانت دول الخليج وجل الدول العربية الفاعلة قد شرعت في إعادة ترتيب علاقتها بأميركا وتوسيع دائرة تحالفاتها بغية خلق نظام مصالح عربي ينسجم مع متطلبات الأمن والاقتصاد والسياسة لكل دولة، فإن ذلك لا يعني معاداة أميركا بل إعادة ترتيب العلاقة معها، فلا يمكن أن يتخيل أحد أن العرب سيعادون أميركا كرمى لعيون بشار الأسد الذي لا يملك ما يفيد العرب، أو أن مسار التسويات يمكن أن ينجز من دون موافقة أميركية.
يستدعي هذا الواقع النظر إلى مشروع الحملات ضد السوريين في لبنان على أنها انعكاس لمشروع انتزاع الموقع عبر نشر الفوضى التي تستعصي على السياسة، وخلق ما لا يمحى من حقد عميق بين اللبنانيين والسوريين بغية تفجير أزمات دائمة، توظف في الدفاع عن دور ما لحزب الله في الداخل، أو خلق نظام لبناني موصول بالأسد تحت عنواء شراء الحلول وتفعيل عنوان ترئيس فرنجية أو نخرب البلد.
ولكن وعلى الرغم من انكشاف مصادر الحملات والتي تعود إلى جهات أمنية تسير في ركاب حزب الله، فإن ذلك لا يعني أن من يطلقها قادر على التحكم فيها بالكامل، لأنها استفادت من خطاب شديد الرسوخ في البيئة اللبنانية يرد كل ما حصل ويحصل في البلد إلى الغريب الفلسطيني سابقا والسوري حاليا.
هكذا تنتفي المسؤولية اللبنانية عن اجتراح الأزمات ويتم تصوير اللبناني على أنه على الدوام في موقع الضحية، وأن ما جرى من موجات تذابح وما يجري حاليا من تعميم منطق التباغض والعنف ليسا سوى أصداء لحروب غريبة تجري على أرض لبنان، لا يربطها نسب وعصب لناحية الأصل باللبننة.
التهديد في هذا المقام يتجه إلى مستقبل البلد ومصيره. الكراهية التي تتم تغذيتها على الدوام عبر نشر التخويف من السوريين قادرة على إقفال أبواب المستقبل في وجه البلد.
أي مسار حل يشترط من دون أدنى شك أن يكون لبنان بلدا طبيعيا، ما يعني مباشرة ألا دور ممكنا لحزب الله وسلطات الفساد العام التي نمت تحت رعايته في مستقبله، لذا يبادر إلى زرع بذرة الكراهية وتعهدها بالعناية لكي تكون عنوانا لبلاد ميتة، حيث يمكنه أن يحيا ويستمر.