شهد النزاع في سوريا تقارباً بين العديد من القوى المتناحرة وذلك في المجال الجوي لتلك البلاد على مدار الحرب السورية التي امتدت لعقد من الزمان تقريباً، والتي باتت تهدد اليوم بجر موارد السياسة الخارجية للولايات المتحدة إلى ذلك المستنقع مرة أخرى، ذلك المستنقع الذي تنشط فيه حليفتها الأقرب: إسرائيل، ومنافستها الأولى: روسيا، بين العناصر الفاعلة الأخرى وعلى مسافة قريبة وخطيرة من الأحداث.
فالهدير الذي يسمع فجأة للطائرات الحربية والانفجارات الصاروخية قد أصبح أكثر من مجرد أمر شائع في الحرب السورية التي ماتزال رحاها دائرة، كما أن الهجمات الأخيرة التي وقعت خلال الأسبوع الفائت في مناطق متفرقة من جنوب غرب البلاد ذكرتنا بعنف الحرب الذي مايزال مستمراً. حيث استهدفت الغارات الجوية التي لم يعلن أحد عن تبنيها، لكنها عزيت لإسرائيل، مواقع بالقرب من مرتفعات الجولان ومطار دمشق الدولي، بما أن إسرائيل اتهمت عناصر مرتبطة بإيران بتخزين أسلحة هناك ونقلها إلى مناطق أخرى.
وفي الوقت الذي كان الهدف فيه من الهجمات إلحاق أضرار على الأرض، أثار أرفع المسؤولين الأميركيين في مجال الاستخبارات، تحدث إلينا شريطة عدم الكشف عن اسمه، أثار هذا الرجل مخاوفَ حول الحجم الهائل للتحركات الجوية التي تسببت بها حملة القصف شبه السرية التي شنتها إسرائيل، في الوقت الذي كانت فيه القوات الجوية الروسية والسورية تنفذ مهامها الخاصة.
اقرأ أيضا: وزيرا دفاع روسيا وإسرائيل يبحثان آلية "عدم التضارب" في سوريا
تزايد نشاط الطائرات
وقد ذكر هذا المسؤول لمجلة نيوزويك بأنه في الوقت ذاته: "لاحظت الولايات المتحدة تزايداً كبيراً في النشاط الجوي العسكري في الأجواء السورية، وشمل ذلك القوات الإسرائيلية والروسية بالإضافة إلى الطيران السوري".
ورأى هذا المسؤول بأن زيادة حركة المرور تزيد من احتمال وقوع حوادث، حيث قال: "أصبح المجال الجوي ممتلئاً بما يفوق الوضع الاعتيادي بشكل يومي، ما يزيد من احتمال ظهور حالات سوء الحساب والتقدير أو الخطأ في تحديد الأهداف من قبل كل الأطراف الفاعلة".
هذا وتعمل الولايات المتحدة في سوريا اليوم ضمن التحالف الدولي الذي تولى مهمة هزيمة جماعة تنظيم الدولة المقاتلة في شمال شرقي البلاد. أما وروسيا وسوريا فقد استهدفتا تنظيم الدولة هما أيضاً في مناطق أخرى من البلاد، إلى جانب استهدافهما لمجموعات الثوار. في حين تدعم إيران هذه الحملة الأخيرة التي تتم على الأرض، غير أن ميليشياتها الشريكة هناك تعتبر مصدر تهديد لإسرائيل كونها تقوم باستهدافها.
وهكذا تتداخل خطوط السيطرة المعقدة وتختفي معالمها وحدودها، وهذا ما أدى إلى صدور تقارير حول ما يربو عن 170 حالة طيران، مع حوادث لمركبات جوية بدون طيار موثقة شملت سبع دول على الأقل، إلى جانب العناصر الفاعلة التي لا تمثل دولاً. ففي سوريا، يخشى البعض من ظهور حالة سوء فهم قد تظهر بعد لحظات من الآن على الأرض.
اقرأ أيضا: غارات إسرائيلية تستهدف قوات النظام وميليشيات إيرانية
وقد تحدث مصدر سوري طلب من نيوزويك عدم الكشف عن اسمه وقال ما يلي: "بالنسبة لازدحام المجال الجوي في سوريا، فقد ظل ذلك مصدر قلق على الدوام، خاصة بعد تدخل الولايات المتحدة في سوريا".
إذ بوجود العديد من الدول التي تنشط في الأجواء السورية، يرتفع احتمال وقوع أي خطأ حسبما ذكر ذلك المصدر.
ناهيك عن الصواريخ التي أضيفت لتلك الخلطة العجيبة، حيث ذكر المصدر ما يلي: "الآن بوجود روسيا والولايات المتحدة وتركيا وفرنسا، فضلاً عن إسرائيل ونشاط كل تلك الدول فوق الأجواء السورية أو بالقرب من سوريا، أصبحت الحوادث أمراً وارداً على الدوام، خاصة عندما تشتمل الأمور على صواريخ دفاع جوي، إذ بمجرد أن يتم إطلاق أحد تلك الصواريخ، لن تعود الأمور كما كانت".
وقبل كل ذلك وقع عدد من الحالات الفتاكة التي عكست سوء تقدير وحسابات على أعلى المستويات، مثلما حدث عندما أسقطت سوريا بالخطأ طائرة تجسس روسية خلال تصديها لغارة إسرائيلية في عام 2018. إلى جانب إسقاط الولايات المتحدة لطائرة حربية تابعة للنظام عندما حلقت فوق المنطقة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية التي يدعمها البنتاغون، وذلك قبل عام من الآن، إلا أن حالات كهذه كان الهدف منها التصعيد بشكل مقصود ومتعمد.
ولكن حتى الآن، لم يحدث أي اشتباك بين الطيران الإسرائيلي والروسي، إلا أنه مع ازدياد عدد الغارات الإسرائيلية ضد نظام الأسد، لا يمكن استبعاد وقوع حادث كهذا.
ولمنع حدوث ذلك، اتفقت الدولتان على آلية تنسيق حول سوريا، يصعب التمييز بين تفاصيلها، لاسيما بوجود علاقات وطيدة تربط بين موسكو ودمشق، ناهيك عن الشراكة الاستراتيجية التي تربطها بطهران. وفي الوقت ذاته، عبرت روسيا عن انتقادها للعمليات الإسرائيلية في البلاد.
وحول ذلك تحدثت الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في مؤتمر صحفي وسط تكثيف إسرائيل لغاراتها على دمشق وقالت: "من الصعب أن ننكر بأن وقوع تلك العمليات يزعزع الاستقرار بشكل أكبر في ظل ظروف إقليمية معقدة".
تنسيق روسي - إسرائيلي
إلا أن إسرائيل نادراً ما تناقش تفاصيل عملياتها في سوريا، غير أن أحد المسؤولين العسكريين الإسرائيليين تحدث إلى مجلة نيوزويك حول الاتصالات التي تجريها بلاده مع روسيا وكيف أضعف ذلك من خطر وقوع تلك الحوادث بالنسبة لكلا البلدين، وقال: "لدينا بالفعل آلية لخفض التصعيد مع الجيش الروسي وهذا يسهل علينا حرية التصرف مع التقليل من خطر وقوع أي احتكاك مع الجنود الروس إلى أبعد الحدود، كما يعزز ذلك الأمن والسلم المشترك. وحتى الآن، أثبتت تلك الآلية فعاليتها وجدواها، وصمدت أمام الظروف المليئة بالتحديات ضمن مجال جوي تجري فيه الكثير من المعارك".
هذا وقد أجرت نيوزويك خلال الشهر الماضي أيضاً لقاءً مع مسؤول أمني إسرائيلي حدثنا عن تحديات انتقاء الأهداف في سوريا وذلك بسبب الغموض الذي يكتنف النزاع في تلك البلاد، حيث تنشط قوات النظام، والجنود الإيرانيون ومقاتلو ميليشيا حزب الله اللبنانية التي تدعمها إيران، إلى جانب القوات الروسية التي تنشط في بعض الأحيان هناك، ويعلق هذا المسؤول الأمني بالقول: "لقد منحت قوات النظام حزب الله مجالاً واسعاً للقيام بما يحلو له، وهذا ما يجعل الوضع هناك غير مريح. وعليه أصبحت عملية تحديد من سنضرب وماذا سنفعل مشكلة كبيرة بالنسبة لنا".
ممنوع على طائرات التحليق قرب الحدود اللبنانية
أما على الأرض، فقد وصف لنا مصدر سوري آخر رفض الكشف عن اسمه عمليات التخطيط لهذا الجزء من النشاط الجوي في سوريا، حيث يمكن ليس فقط للحوادث التي تجري بين طائرتين عسكريتين أن تحدث، بل أيضاً يمكن أن تقع حوادث بين طائرات عسكرية ومدنية.
اقرأ أيضا: معلومات استخبارية قدمتها أميركا لـ إسرائيل قبل قصف دير الزور
كما أن الطائرات الحربية التابعة للنظام تنشط على الحدود الجنوبية والغربية من البلاد، بالإضافة إلى نشاطها قبالة ساحل المتوسط، بيد أن هذا المصدر ذكر بأن أي نشاط على مقربة من الحدود اللبنانية أو الإسرائيلية لابد وأن يتعرض لرد عسكري إسرائيلي.
وأشار ذلك المصدر إلى أن الروس لا تنطبق عليهم تلك القيود ولا غيرها بالنسبة لهذا الموضوع، وأضاف: "هنالك بعض القيود المفروضة بعد تجاوز مياهنا الإقليمية، وثمة بعض القيود المفروضة على لبنان، وعلى المنطقة الجنوبية. في حين أن روسيا لا تخضع لكل تلك القيود نهائياً، أي أن القوات الروسية تتمتع بحرية أكبر من الحرية التي نتمتع بها".
هذا وتمتد تلك الحرية إلى المنطقة الاقتصادية الحصرية الخاصة بسوريا وما بعدها أيضاً، حيث: "تحلق طائرات تجسس أميركية هناك أيضاً"، بحسب ما ذكر ذلك المصدر.
مصدر من النظام: صواريخنا تصطدم بالمنازل
ثم إن الولايات المتحدة وروسيا لديهما قنواتهما الخاصة بالنسبة لخفض التصعيد، وذلك على مستوى العمليات الجوية والبرية في شمال شرق سوريا، حيث زاد التوتر بين الدولتين والعناصر المتحالفة مع كل منهما خلال الشهور الماضية. إذ تقوم الدولتان بالسعي وراء حملاتهما كل على حدة، إلا أن ذلك لم يمنع تشاجرهما بين الحين والآخر، وقد كانت بعض تلك المشاجرات عنيفة بالفعل.
وبالعودة إلى المصدر السوري الأول، ننقل عنه ما يلي: "بخلاف الوضع بين روسيا والولايات المتحدة حيث يتوفر خط تواصل مباشر بين الدولتين، يمكن وقف الحوادث الصغيرة بسهولة قبل وصولها إلى مرحلة التصعيد. أما الاشتباكات الجوية بين دولتين خصمين مثل سوريا وإسرائيل فإنها تهدد على الدوام حركة الطيران المدني في المنطقة. وذلك لأن الطائرات الحربية الإسرائيلية تحلق ضمن ممر مدني أو بالقرب من طائرة مدنية، أما الصواريخ السورية فهي تتبع إشارات رادار ضخم، أي أنها قد تفشل في تعقب الأهداف التي تم التصويب عليها، لتصطدم بمنزل، أو سمه ما شئت، أي أن الأخطاء ورادة ولابد وأن تكبدنا الكثير على الدوام".
وفي الوقت الذي كانت فيه المهمة التي اضطلعت بها موسكو والتي تتلخص بإنقاذ حكومة بشار الأسد من الثورة التي عمت بلاده واضحة منذ البداية، تقلبت أهداف واشنطن مع اختلاف الإدارات فيها. فقد سعى الرئيس الأسبق باراك أوباما في بداية الأمر إلى إسقاط الأسد عبر دعم الثوار، لكنه غيّر موقفه وتوجه لمهمة محاربة تنظيم الدولة، تلك المهمة التي نفذها خلفه دونالد ترامب، والذي أعرب عن رغبته بسحب الجنود الأميركيين مع إبقاء 900 جندي منهم لحراسة مواقع النفط والغاز في تلك البلاد.
أما الرئيس جو بايدن، الذي شغل منصب نائب الرئيس أيام أوباما، فلم يبد أي إشارة بالنسبة لإنهاء الوجود الأميركي في سوريا، بالرغم من دعوات دمشق لسحب تلك القوات. كما أن القيادة الأميركية الجديدة لم تعرب عن استعدادها للتدخل بشكل أكبر في ذلك النزاع.
وفي بيان وصل إلى مجلة نيوزويك، تحدث الناطق الرسمي باسم الخارجية الأميركية حول ثلاثة أهداف لإدارة الرئيس جو بايدن في سوريا، أولها حسب وصفه: "تلتزم الولايات المتحدة بتسوية سياسية تنسجم مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 وذلك لإنهاء النزاع في سوريا، بالتشاور مع حلفائنا وشركائنا والأمم المتحدة".
وثانيهما حسب ما ذكر: "سنستعين بالأدوات التي تحت تصرفنا، والتي تشمل الضغوطات الاقتصادية، للدفع نحو إصلاح حقيقي ومحاسبة نظام الأسد"، أما الثالث فهو: "تواصل الولايات المتحدة والتحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة العمل مع شركائنا المحليين الذين كبرت إمكانياتهم على مواصلة الضغوطات المستمرة ضد فلول تنظيم الدولة في سوريا، لضمان هزيمة هذا التنظيم بصورة نهائية".
إلا أن المسؤولين الأميركيين رفضوا مناقشة الدور الذي تلعبه إسرائيل في سوريا، تلك الدولة التي قامت إدارة بايدن بالتأكيد مجدداً على وجود اتفاقية طويلة الأمد تحتم الدفاع عنها. كما أن إسرائيل لم ترد في كامل التقرير الربع سنوي الأخير الصادر عن البنتاغون والذي يتم رفعه للكونغرس حول المهام العسكرية الأميركية في العراق وسوريا، بالرغم من اشتماله على إشارات لوجود عناصر فاعلة أخرى، وهي إيران وروسيا وتركيا.
هذا وقد رفضت القيادة المركزية الأميركية التعليق على تفاصيل العمليات الجوية في تلك البقعة من البلاد التي تنتهكها الطائرات الحربية الروسية والإسرائيلية بين الفينة والأخرى، حيث اكتفى الناطق الرسمي باسم البنتاغون بالقول: "سأرفض التعليق على المجال الجوي فوق المنطقة الغربية في سوريا".
المصدر: نيوزويك