سيموت حافظ الأسد في العاشر من حزيران عام 2000، ليكون موته على عكس نهاية قصص الاستبداد ليس طياً لصفحة انتهت، وإنما فتحاً لصفحة أكثر دموية وأقل فهماً لبنية السلطة في سوريا وعلاقتها مع المجتمع والدولة.
شهدت سوريا وما تزال تشهد حتى اليوم العديد من المجازر التي ترقى إلى مجازر إبادة جماعية على أساس طائفي نفّذتها قوات نظام الأسد في أكثر من منطقة في سوريا وبأكثر من طريقة، وبعد الكشف عن كل مجزرة تمتلئ وسائل التواصل الاجتماعي والعديد من وسائل الميديا بالخطاب الطائفي الذي يؤصل لارتكاب الجريمة على أساس الجوهر، ويبدأ التراشق الطائفي بين دعوات الانتقام والتجريم والتأصيل التاريخي لعمالة وجرمية الطائفة العلوية.
وبين التصفيق للمجزرة أو تبريرها أو سرد تاريخية تبريرية من الظلم والاضطهاد التي تعرضت له الطائفة العلوية، ورغم أن التاريخ عند دراسته بتحقيق وبحث علمي موضوعي يدحض كلا من الروايتين حول العمالة والجرمية من جهة، وحول الظلم والاضطهاد من جهة أخرى، فإن ما يتم تناوله ليس تاريخاً بقدر ما هو خطاب تاريخي تبنيه كل فئة بما يتناسب مع مصالحها القائمة على أساس التمايز عن الآخر في الجوهر والطبيعة، وليس على أساس السلوك والمصالح.
لا تتسع هذه المادة لدحض الروايتين التاريخيتين المتناقضتين والمتداولتين على نطاق بات أكثر اتساعاً بعد انطلاق الثورة السورية، ولكن يمكن لها أن تشير إلى كتاب (تاريخ العلويين من حلب القرون الوسطى إلى الجمهورية التركية)، والذي للأسف تم إهمال التعريف به من جهة الناشر (مركز الحرمون) على أهميته، والكتاب كتبه الباحث الكندي ستيفان وينتر، وترجمه للعربية كل من أحمد نظير الأتاسي وباسل وطفه، ويمكنه أن يمنح القارئ نظرة علمية موضوعية مبنية على أسس علمية كمية على أحداث مهمة من تاريخ الجماعة السورية.
تركز المادة على مؤسس نظام الاستبداد الحديدي في سوريا، ونشأته، ومدى دور البعد الطائفي في تفكيره الذي أدى به إلى بناء نظام مجهز لارتكاب المجازر الدموية باسم الجماعة التي ينتمي إليها.
سيولد حافظ الأسد عام 1930 لعائلة علوية في مدينة القرداحة السورية، وينتمي لعشيرة الكلبية التي كانت القرداحة سابقاً تحمل اسمها، وذلك لتوطن تلك العشيرة فيها أكثر من غيرهم، وبعيداً عن الروايات التي يتم تداولها عن أن الأسد ذو أصول إيرانية مرة ويهودية مرة أخرى وكردية مرة ثالثة، أو أنه من رعاة الصحراء أو أن عشيرته تنتسب لقبيلة كلب العربية
سيولد حافظ الأسد عام 1930 لعائلة علوية في مدينة القرداحة السورية، وينتمي لعشيرة الكلبية التي كانت القرداحة سابقاً تحمل اسمها، وذلك لتوطن تلك العشيرة فيها أكثر من غيرهم، وبعيداً عن الروايات التي يتم تداولها عن أن الأسد ذو أصول إيرانية مرة ويهودية مرة أخرى وكردية مرة ثالثة، أو أنه من رعاة الصحراء أو أن عشيرته تنتسب لقبيلة كلب العربية، فإن الأصل الحقيقي لعشائر الكلبية يعود للجماعات المهاجرة التي جاءت من شمال شرقي سوريا في الربع الأول من القرن الثالث عشر، وأكثر تحديداً من جبل سنجار تلبية لنجدة طلبها علويو المنطقة الساحلية في الصراعات التي كانت تحدث في الساحل السوري بين طوائف مختلفة كان لها واجهتها المذهبية وخلفياتها الاقتصادية والسلطوية.
وكان على رأس الحملة شخصية سيكون لها أثر كبير في التاريخ العلوي، المكزون السنجاري الذي عُرِف برسائله الدينية المهمة التي أثرت كثيراً في شكل العقيدة العلوية، إلى جانب الأثر الأكبر الذي تهتم به تلك المادة، وهو ”علمنة“ الطائفة العلوية، أي منحها هوية طائفية بعد أن كانت فرقة أو "طائفة" بالمفهوم التاريخي العربي للكلمة، أي مجموعة من الناس الذي يمارسون حرفة أو طقوساً معينة مشتركة، والتي كانت قبل المكزون السنجاري مجالاً أكثر انفتاحاً، بمعنى يدخل ويخرج منها من يؤمن أو يبتعد عن الإيمان بالمعتقد الخاص بها.
كذلك أدخل السنجاري إلى الجماعة العلوية التقسيم العشائري، والذي ميّز فيما بعد القادمين من سنجار على أنهم أقل تديناً وأكثر استعداداً للقتال من العشائر القديمة في الساحل الأكثر تديناً وأقل توجهاً لذلك.
يبدو أن حافظ الأسد ولد في هذا المناخ الذي تحيط به روايات وحكايات كثيرة عن عشيرته لم تنته مع السنجاري، وإنما استمرت في دور العشيرة الكلبية التاريخي في العراك والصراع المحدود والمؤطر مع السلطات القائمة، والقائم في أساسه على اللصوصية الاجتماعية التي شكّلت نوعاً من التمرد على الظلم الواقع من قبل السلطات، وبشكل رئيسي المرتبط بتحصيل الضرائب، ولم يقتصر على طائفة أو جماعة معينة في سوريا خلال فترة الحكم العثماني.
من المرجّح أن والد حافظ الأسد كان صاحب شأن في منطقته، وينخرط تحت الطبقة التي أبدع الباحث العراقي الأميركي حنا بطاطو في تسميتها "الوجهاء الريفيون الأقل شأناً" في كتابه فلاحو سوريا. ظهر اسم والد حافظ الأسد في وثيقيتين تاريخيتين على الأقل بمضمونين متناقضين: الوثيقة الأولى من الأرشيف الفرنسي يطالب فيها موقعوها بعدم عودة الوحدة مع دولتي حلب ودمشق وأن تبقى دولة العلويين دولة مستقلة، بينما تؤكد الوثيقة الثانية على وحدة سوريا وإسلامية الطائفة العلوية ورفض التقسيم.
وفي حين كانت الوثيقة الأولى مشوبة بالغموض بسبب عدم وجودها في الأرشيف الفرنسي، وإنما فقط تتحدث المراجع والمصادر التي أوردتها عن نسخة عربية منها في مكتبة الأسد، فإن الوثيقة الأولى موجودة في الأرشيف الفرنسي وموقّعة بالاسم الكامل لوالد الأسد (علي سليمان الأسد)، أما الثانية فكانت باسم سليمان الأسد. هل هذا يعني أن الوثيقة الأولى غير حقيقية ووالد الأسد كان وحدوياً وطنياً؟ لعل الأمر يعني أكثر من ذلك، وهو أنه لا الجماعة (الطائفة أو العرقية) ولا الفرد عناصر اجتماعية ثابتة، بقدر ما هي بنى تستجيب لتحديات وتغييرات بنيوية أو ثقافية أو اقتصادية.
يمكن أن يكون والد الأسد وقّع على الوثيقتين متأثراً بالظرف المحيط بكل مرحلة، ويمكن أن يكون وقّع على الوثيقة الثانية فحسب. في تلك المرحلة كانت سوريا، وبشكل خاص مناطق العلويين تتعرض لأزمة وطنية كبرى، حيث تم سلخ لواء اسكندرون وضمه إلى تركيا، مما أدى لخسارة الكثير من الناس المقيمين هناك مصالحهم وروابطهم العائلية والعشائرية في سوريا والعكس صحيح.
هذه الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تأثر بها العلويون أكثر من غيرهم لاقت صدى وطنياً طالب بعودة اللواء على أنه قطعة من سوريا، وتحرّكت المظاهرات في كل سوريا تؤكد على عروبة اللواء وسوريته. مدعوماً بالصلات التي خلقتها ثورة صالح العلي في العمق الوطني، وفتاوى الحسيني بأن الطائفة العلوية من المسلمين وأزمة اللواء راح يتطور إلى بُعد وطني ويتغلب على الآراء الراغبة في الانفصال عن باقي السوريين.
وفي مرحلة شبابه فضّل الانضمام لحزب البعث العربي على أن ينضم لحزب نشط في مناطق الساحل والجبال الساحلية ذي صبغة طائفية عُرِف باسم حزب إصلاح الريف العلوي
في هذه البيئة نما حافظ الأسد، وفي مرحلة شبابه فضّل الانضمام لحزب البعث العربي على أن ينضم لحزب نشط في مناطق الساحل والجبال الساحلية ذي صبغة طائفية عُرِف باسم حزب إصلاح الريف العلوي.
يبدو أن حافظ الأسد لحينها كان صاحب توجّه عروبي. في فترة الوحدة مع مصر التحق حافظ الأسد باللجنة العسكرية البعثية، التي رفضت حل حزب البعث، وعلى عكس الروايات التي تفضل إظهار اللجنة على أنها مؤامرة من ضباط من الأقليات للسيطرة على الجيش، فإن مؤسسي اللجنة العسكرية الأوائل كانوا في غالبهم من السنة، وهم: اللواء بشير صادق والضباط ممدوح الشاغوري وعبد الغني عياش من السنة، ومزيد هنيدي من الدروز، ومحمد عمران من العلويين، وبعد تحويل بشير صادق والشاغوري وغيرهم إلى السلك الدبلوماسي تم ترميم اللجنة بشخصيات مثل صلاح جديد وحافظ الأسد.
سينقسم الجناح العسكري لحزب البعث في مطلع الستينات لكتل عدة، وعلى الرغم من الشكل الظاهري الطائفي لها، إلا أنه في الغالب لعبت العلاقات الزراعية دوراً أكبر في هذا التقسيم، فكتلة ضباط حوران وكتلة الضباط العلويين والدروز يبدو الترابط فيها ذا بعد عائلي ومناطقي أكثر منه طائفياً. بعد انقلاب آذار وسيطرة البعث على السلطة سيبدأ دور حافظ الأسد الذي لم يكن حتى حينها أكثر من صبي تابع لصلاح جديد يكبر، وستتم إعادته إلى الجيش بعد تحويله للخدمة المدنية عقب الانفصال عن مصر، وسيستطيع أن يترفّع خلال السنتين الأوليين من رتبة ملازم أول إلى رتبة لواء بدعم من راعيه صلاح جديد.