بدأ مفهوم الديمقراطية بالظهور في التجربة البشرية قبل مفهوم الليبرالية بكثير، لكنهما أصبحا بعد الحرب العالمية الثانية متلازمين بشكل عضوي، حيث دقّت الحاجة لحماية الحريات الفردية من ديمقراطية الأغلبيّة في أوقات الأزمات، أي من إفراز الانتخابات أكثريةً برلمانية لا تقيم وزنًا لحقوق الأفراد والأقليات والفئات المهمشة.
تمّ هذا التغوّلُ في التاريخ، ويتمّ الآن أيضًا نتيجة ظروف متداخلة تستغلها قيادات شعبوية تنقلب على مؤسسات الدولة. أبرز مثالين من ألمانيا وإيطاليا عندما أُنتِجتْ الفاشية والنازية من صناديق الاقتراع، فهتلر تسلّم المستشارية بعد أن فاز حزبه بالانتخابات، وموسوليني تقلّد السلطة بتكليفٍ من ملك البلاد الشرعي.
أمّا عربيًا فلدينا تجربة تونس مثالًا راهنًا نعايشه الآن، فالرئيس قيس سعيّد وصل بانتخابات حرّة، لكنّه بدأ يستخدم مؤسسات الدولة لينقلب على الديمقراطية ولينكّل بخصومه السياسيين، وحدّث ولا حرج عن التجاوزات على الحريات العامّة وعلى الحقوق الفردية السياسية والمدنية.
لذلك تمّ بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا وبقيّة الدول الديمقراطية تطوير القيم الدستورية غير القابلة للمسّ، أو القيم فوق الدستورية، من أجل حماية الحريات وفق آليات فصل السلطات والتي تجعل المحكمة العليا أو المحكمة الدستورية حارسًا لهذه القيم، يعني ذلك باختصار وجود مواد في الدستور لا يمكن تعديلها مهما كانت الأغلبية الانتخابية، لأنها تخلّ بالعقد الاجتماعي برمّته.
إن ما يغذي هذا التناقض الدائم في بنية الديمقراطية الليبرالية، هو استناد الديمقراطية إلى مبدأ السيادة الشعبية، واعتماد الليبرالية على مبدأ الحرية الفردية.
تَختصرُ بعضُ التعريفات الديمقراطية بأنها حُكم الأغلبية السياسية بموجب انتخابات حرّة ونزيهة، وهي في الحقيقة أوسع من ذلك، لأنها سلوكٌ وممارسةٌ عمليان تقوم من خلالهما مؤسسات الدولة بإدارة شؤون المجتمع والأفراد. أما الليبرالية فهي المفهوم العام الذي يبحث في الحقوق الفردية، وهي التي تحمي المجال الخاص للأفراد بما يشمل طرائق عيشهم وتفكيرهم وتعبيرهم عن ذواتهم وتهتم بصيانة ملكياتهم. "أسّ الديمقراطية عمومًا المشاركة الشعبية الواسعة في صنع القرار والتمثيل النيابي الذي يقرر عبر الانتخابات، وقيمتها الرئيسة المساواة وتتجلى بخاصة في المراحل النضالية للديمقراطية. أمّا الليبرالية فتقوم على حريات الأفراد وحماية مجالهم الخاص بما في ذلك الملكية الخاصة، وقيمتها الرئيسة الحرية وما يشتق منها من قيم".
لم تأخذ الليبرالية مضمونها ومعناها من تعريفات محددة معزولة عن السياق التاريخي وعن المجتمعات التي نشأت فيها، فهي جزء من مسار التطوّر البشري الذي يختلف ببعض تفاصيله ومنحنياته رغم أنّه في النهاية يمشي باتجاه واحد إلى الأمام.
ثمّة نموذجان مختلفان لليبرالية، أولهما يرى أنّ الدولة يجب أن تبقى بعيدة ما أمكن عن التدخل في العلاقات المجتمعية. وفق هذا المفهوم لليبرالية فإنّ الأفراد قادرون على عقد توافقات بينهم دون حاجة لفرضها من سلطة خارجية، ويتوجب تركهم يتعاقدون فيما بينهم لينتجوا السلم المجتمعي والازدهار الاقتصادي والحكم الرشيد بحرية. هذا هو المفهوم الأميركي الذي يعتبر الدولة شرًّا لا بدّ منه ويجب تقليص أدوارها لأبعد الحدود الممكنة. بينما يرى المفهوم الثاني أنّ العلاقات الفردية يجب أن تكون منضبطة بقواعد تُعلي من شأن قيم المساواة والعدالة تجاه قيم الحرية الفردية، وهذه ترى أنّ الدولة يجب أن تلعب دور الميزان المرجّح والفاعل المؤثر في المجتمع، وهذا هو المفهوم الأوروبي عمومًا لليبرالية.
"كانت الليبرالية غالبًا في القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين تيارًا فكريًا سياسيًا اقتصاديًا نخبويًّا. واهتم حَمَلَةُ هذا الفكر بالحفاظ على هذه القيم بوصفها موجّهًا لعلاقات الدولة والفرد والمجتمع، وحمايتها من عسف السلطة التي يفترض أن يقتصر دورها على حماية الحريات. وبدا لهم أنّ شرط الحفاظ على الحريات المدنية وحماية المجال الخاص هو عدم مشاركة الجماهير الواسعة التي لا تتبنى هذه القيم غالبًا، في عملية صنع القرار. فإذا ترك القرار لجماهير واسعة سهلة الانقياد، أي التي يسهل على الديماغوجيين خداعها، فسوف تكون النتائج وخيمةً".
ما ينطبق على ليبيا ينطبق على جميع بلداننا العربية بدرجاتٍ متفاوتة، وتبقى الديمقراطية الليبرالية حلم الكثيرين منّا المنشود حتى ننجزها بسواعدنا وهممنا.
بكل الأحوال، لم تكن الديمقراطية دائمة الصلة بالليبرالية، فبحسب الفيلسوف البولندي ليزيك كولاكوفسكي هناك تناقض جوهري في بنية الديمقراطية والليبرالية، و"إن ما يغذي هذا التناقض الدائم في بنية الديمقراطية الليبرالية، هو استناد الديمقراطية إلى مبدأ السيادة الشعبية، واعتماد الليبرالية على مبدأ الحرية الفردية، ما يجعل الديمقراطية الليبرالية باستمرار تعمل في اتجاهين نقيضين؛ تسعى أحيانًا لضمان السيادة المطلقة للشعب، ولكن تعمل دائمًا على الحد من سلطة الحكم اليومي للأغلبية، حتى لا تنتهك حقوق الأفراد والأقليات. يتطلب هذا التوتر الكامن في بنية الديمقراطية الليبرالية، بحسب كولاكوفسكي، نوعًا من التوازن الحذر والمرونة العالية، لأنه هو وحده ما يُبقي الديمقراطية الليبرالية مستمرة وفعالة".
لكن ما الذي تبحث عنه شعوب المنطقة العربية، خاصة تلك التي عاشت في ظلّ أنظمة جمهورية وقامت بالثورة على حكّامها؟ وهل تنشد الديمقراطية فقط، أم الليبرالية، أم كلتيهما؟ الواقع يقول إنّ بلادنا تعاني من أزمات سياسية مستفحلة، فالأنظمة الجمهورية لم تستطع أن توطّد دعائم الديمقراطية ولا أن تكرّس الليبرالية، فتداول السلطة فيها منذ خمسينيات القرن الماضي لم يكن في الغالبية الساحقة منها إلا عبر الانقلابات، كما أنّ فسحة الحريات والحقوق المدنية الفردية والجماعية بدأت تتقلّص حتى اضمحلّت في بعض البلدان نهائيًا. لم تكن بعض الأنظمة الملكية بعيدة عن هذا الأمر، لكنها كانت أكثر استقرارًا باعتبار أنّ أسس الشرعية للأسر المالكة الحاكمة لم تكن محل نقاش مجتمعي ولا محل تنازع.
أكثر ما يثير الاستفزاز في النقاش حول أساسياتٍ تجاوزها كثيرٌ من شعوب العالم هو العودة لهذه القضايا كل فترة من الزمن كما حصل في ليبيا مؤخرًا. فتصريح وزير داخلية حكومة طرابلس الليبية حول فرض الحجاب وإجبار النساء على أخذ موافقة وليّ أمرهن عند السفر وتقييد الاختلاط بين الذكور والإناث والتدخّل بحريّات الشباب في انتقاء اللباس وقصّات الشعر.... هو نوعٌ من التغوّل الواضح على الحريات، وهو إضافة لمخالفته التزامات ليبيا بموجب القانون الدولي، عودة في التاريخ إلى عصور الظلام وكأنّ الشعب الليبي قد ثار ليستبدل بحكم القذافي حكم طالبان. هذا غيضٌ من فيضِ التغوّل على حقوق الإنسان في بلادنا العربية، فما الرأي إن كنّا نتحدّث عن الاعتقال التعسفي الجماعي، والاختفاء القسري، والتعذيب والمحاكمات الجائرة، أم عن حقوق حرية التعبير والتجمع السلمي، أم عن انتهاكات وجرائم العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي والتمييز، والقتل خارج القانون؟ هذه كلها قضايا راهنة تحتاج حسمًا كي تستقر مجتمعاتنا، ولذلك لا بدّ أن يتمّ تحصينها دستوريًا من خلال مبدأ فصل السلطات ومن خلال اعتبار قضايا حقوق الأفراد والجماعات، التي هي جوهر الليبرالية، من المبادئ غير القابلة للمساس من قبل أية أكثرية برلمانية. ما ينطبق على ليبيا ينطبق على جميع بلداننا العربية بدرجاتٍ متفاوتة، وتبقى الديمقراطية الليبرالية حلم الكثيرين منّا المنشود حتى ننجزها بسواعدنا وهممنا.