يركز الجدل القائم حول احتمال إنشاء صندوق للضحايا السوريين على السبل القانونية لتحقيق ذلك بصورة رئيسية، بيد أن تحديد شكل التعويضات الفردية أو الجماعية مهم أيضاً، لذا ما الذي بوسع أي صندوق دولي تقديمه لمن تضرر بسبب العنف؟
ينبغي للقرارات المعنية بشكل التعويضات أن تأخذ بعين الاعتبار أصوات الناجين وآراءهم، بالإضافة إلى رأي منظمات المجتمع المدني التي تعمل بالأصل على مساعدة الضحايا، أي إن التعويضات يجب أن تعمل على إعادة الإحساس بالكرامة لدى من نجوا من العنف في سوريا، إلى جانب مساعدة الناجين في أي مكان يقيمون فيه الآن. وهنالك أشكال كثيرة يمكن لهذا الصندوق الدولي أن يتخذها، ولكن لا بد من أن يتصدر الناجون تلك العملية.
منذ حزيران 2022، يعمل الصندوق العالمي للناجين، ورابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا ومركز ضحايا التعذيب على مشروع التدابير التعويضية المؤقتة في جنوبي تركيا والمعني بالناجين من المعتقلات السورية. ومشاريع التدابير التعويضية المؤقتة ليست تعويضاً بالمعنى القانوني، لأن مسؤولية ذلك تقع على عاتق الحكومات. وبوصف تلك المنظمات منظمات غير ربحية، لذا فقد حاولت معالجة الاحتياجات الملحة للناجين من خلال تدابير مؤقتة، على أمل الخروج ببرنامج للتعويض تترأسه الدول التزاماً بحق التعويض، ويتمثل هذا الأمل بالنسبة للضحايا السوريين في إنشاء صندوق خاص بهم.
اكتشفت تلك المنظمات من خلال عملها ضرورة وضع معايير لأي برنامج تعويضي ينفذ من خلال صندوق الضحايا السوريين، فقد نجا السوريون الذين تتعامل معهم تلك المنظمات من جرائم شنيعة، وضاعت سنوات من حياتهم في التعذيب داخل المعتقلات أو تعرضوا للأسر على يد جماعات مسلحة لا تمثل الدولة. لذا فإن الرسالة التي وصلت للضحية عند تعرضه لتلك الجرائم هي أنه ليس بشراً، ولا كرامة لديه، وبأنه صار مهملاً وتخلى الجميع عنه.
ولهذا يجب على صندوق الضحايا السوريين أن يرسل للضحايا رسالة معاكسة، أي رسالة تشعرهم بكرامتهم وبانتمائهم، وبهذه الطريقة، يمكن للتعويض أن يحمل أثراً بالغاً عليهم بل بوسعه أي يغير حياتهم. وحتى يحدث ذلك، يجب على القائمين على إدارة هذا الصندوق أن يفكروا في أشكال وأساليب مختلفة لتقديم الإجراءات التعويضية.
تعويضات مؤقتة بناء على بيانات الناجين
إن مشروع التدابير التعويضية المؤقتة في تركيا هو رابع مشروع من نوعه يقيمه الصندوق العالمي للناجين، فقد بدأ العمل بدراسة كشفت عن التحديات والفرص القائمة بالنسبة لعملية تعويض ضحايا العنف الجنسي المرتبط بالنزاع، إذ بدأت الدراسة حول سوريا في عام 2021، بالشراكة مع رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، ومنظمة النساء الآن من أجل التنمية.
في بداية العمل على الدراسة، قرر القائمون عليها بأن هنالك حاجة لإقامة مشروع للتدابير التعويضية المؤقتة مخصص للناجين السوريين، وذلك لأنه لا بد من معالجة الأضرار التي ترتبت على الفور، لاسيما بالنسبة للأشخاص الذين اضطروا للهرب من سوريا. وفي ظل غياب برنامج تعويضي تترأسه لدولة، قد يقدم هذا البرنامج فرصة ليثبت للمجتمع الدولي بأن التعويض يمكن أن يتم خارج الدولة التي وقعت فيها الانتهاكات.
ولذلك قررت هذه المنظمات أن تركز على المنطقة التركية المحاذية للحدود السورية تماماً، إذ افترضت بأن الناجين ممن لديهم أمس الاحتياجات وأكثرها إلحاحاً قد وصلوا على الأرجح إلى تركيا وفضلوا الإقامة هناك على البقاء في مدينة حدودية سورية.
وفي تركيا، قدم الصندوق العالمي للناجين منهجية ومِنحاً لكل من رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا ولمركز ضحايا التعذيب بما أنهما يتعاملان مع الناجين بشكل مباشر، وصارت لجنة توجيهية مؤلفة من ناجين وأصحاب مصلحة آخرين تشرف على تنفيذ هذا المشروع.
تتعامل هذه المنظمات مع 820 ناجياً من المعتقل، وتتراوح تجارب هؤلاء ما بين ثمانينيات القرن الماضي وحتى عام 2023، ولدى هذه المنظمات فريق مؤلف من 18 عاملاً على الحالات، بحيث يؤسس الناجون حزمتهم الخاصة من التدابير التعويضية المؤقتة التي تشتمل على تعويض مالي وإمكانية توفير رعاية نفسية أو علاج فيزيائي لهم إن احتاج الناجي لذلك.
أما بالنسبة للتعويض المالي، فهنالك كثير من الناجين الذين قرروا فتح أو دعم مشروع تجاري صغير خاص بهم، فيما دفع آخرون المبلغ كأقساط لجامعة أحد أولادهم، أو عادوا هم لارتياد المدرسة. وفضل بعض الناجين الاستعانة بذلك المبلغ لحل مشكلات طبية قديمة تكلفهم الكثير، مثل تعويض ضرس فقدوه بسبب التعذيب في المعتقل.
والأهم من كل ذلك هو أن يقرر الناجون بأنفسهم، فهم أدرى الناس بما سيعوضهم عن الأضرار التي عانوا منها. وعبر مساعدتهم في تشكيل إجراءاتهم التعويضية المؤقتة، أصبح الناجون قادة لرحلة تعويضهم. وتعتمد التدابير التي تلقوها على تقييم لاحتياجاتهم، إلا أن الوثوق بالناجين وبأنهم سيتخذون قراراتهم بأنفسهم في مسألة تعويضهم يعزز كرامتهم، ويجعل من عملية الحصول على تدابير تعويضية تعويضاً بحد ذاته.
يتمتع كل ناج بحق فردي بالحصول على تعويض، في الوقت الذي يكون فيه فرداً ضمن مجموعة من الناجين. ويمكن للتدابير الجماعية، مثل كتاب يضم شهادات أو معارض فنية تقدم مأساتهم أن تقدم تعويضاً بالغاً للضحايا عبر الاعتراف بأنهم ضحايا، وتقدير قدرتهم على الصمود والأمل مع جعل التدابير التعويضية جزءاً من نسيج الذاكرة. إلا أن التصرف سيغدو غير مسؤول إن طلبنا من الشخص أن يركز انتباهه على الجماعة وعلى الأنشطة التي تهدف للعدالة، في حال لم يطرأ تغيير على حياته الشخصية من شأنه التعويض عن الضرر، ما يعني بأن التدابير الجماعية لا يمكنها أن تحل محل التدابير الفردية، بل تعتبر مكملة لها.
ولهذا السبب يركز هذا المشروع على التدابير التعويضية المؤقتة الفردية أولاً، وبمجرد تقديم هذه الإجراءات، تبدأ عملية مناقشة التدابير الجماعية مع الناجين، وهذا يكفل للناجين أن يشرعوا باستعادة ما انتزعته الانتهاكات منهم، وبناء حياتهم من جديد،مع التصرف باستقلالية بوصفهم بشراً.
بناء الثقة والمجتمع
بعد أن يقوم البرنامج بدفع التعويضات للناجين، يصبح من دواعي سرور القائمين على المشروع مشاهدة الناجين وهم يفتتحون مشاريعهم الصغيرة، وزيارتهم في المدرسة، وسماع أخبار أولادهم وما سيفعلونه بعد تلك الخطوة. ويرى جميع الناجين بأن هذا المشروع أحيا الأمل في نفوسهم من جديد، إذ يشعرون معه بالتقدير والثقة بمستقبلهم ومستقبل أولادهم. وبما أن القائمين على المشروع لا يستطيعون أن يتحدثوا بثقة عن الأثر الرسمي الذي خلفه المشروع من دون استكمال مراقبتهم وتقييمهم للمشروع، يمكن هنا تقديم بعض الملاحظات في هذا السياق:
بداية، ثمة إحساس بعودة الثقة بعد التعويض، إذ خلال زيارة الفريق القائم على المشروع، عبر الناجون قبل المشروع عن مدى إحساسهم بتخلي المنظمات الأخرى عنهم، وذلك لأن من يركز على التوثيق القانوني لحالات الناجين سيأتي ليجمع قصصهم ويعدهم بالدعم ثم يختفي بعد ذلك. ولذلك كان هنالك رفض كبير لفكرة الانضمام للمشروع لأن الناجين اعتقدوا بأنهم سيتعرضون للخذلان من جديد.
في 6 شباط 2023، ضرب زلزال الجنوب التركي والشمال السوري، فدمر حياة الناجين أكثر، وبما أن القائمين على المشروع أدركوا الحاجة للتصرف بشكل فوري وتقديم الدعم العاجل، لذا فقد جمعوا مبلغاً ووزعوه على كل الضحايا الذين شملهم المشروع حتى الآن، وبعد تقديم هذا المبلغ لهم، بدأ الناجون يثقون بالمشروع، كما تواصل مع القائمين عليه مزيدٌ من الناجين للمشاركة فيه.
ولقد ساعد المشروع أيضاً في بناء مجتمع للناجين عبر ربط الناجين ببعضهم بعضا، وذلك لأن التشجيع والدعم الذي يتلقاه الناجي من زميله يساعده في التغلب على وصمة العار التي يتعرض لها ضمن أوساط أوسع من المجتمع السوري. إذ لم يكن أحد في السابق يتحدث عن الاعتقال وبالأخص التعذيب الجنسي ضمن بيئات فئات معينة من الناس. وهكذا صار الناجون يعيشون في صمت وإحساس بالعار، حتى مع شيوع حالة النجاة من المعتقل بين السوريين في تركيا. وقد صدم القائمون على المشروع في نقاش جماعي لتركيز الأفكار أقيم مؤخراً، وذلك عندما نطق أحد الناجين بكلمتي: تعذيب جنسي بصوت عال. ولهذا فإن لقاء الناجين ببعضهم وتجمعهم واعترافهم بإمكانياتهم، وبناءهم لمجتمع خاص بهم قد زرع في نفوسهم إحساساً بالفخر وعزز تضامنهم مع بعضهم بعضا.
على الرغم من نقاط التحسن التي طرأت على حياة الناجين، والآثار الأخرى التي يتمنى القائمون على المشروع العثور عليها في القياسات الرسمية، لا بد من تقديم المزيد، ولكن ولسوء الطالع لا تستطيع تلك المنظمات تحمل أعباء معالجة كل هذا الضرر الذي لحق بالناجين، ومن دون أفق لقيام برنامج تعويضي تؤسسه الدولة، يصبح إنشاء صندوق دولي للضحايا السوريين أفضل عرض متوفر للوصول إلى الضحايا.
التعويض أمر ممكن
أثبت هذا المشروع بأن التعويض أمر ممكن بالنسبة للناجين السوريين، وهنالك ضرورة لتأسيس هذا المشروع بصورة جماعية، مع أهمية التركيز على الفرد، والمشاركة في مقاربة للتعويض تضم عدداً من أصحاب المصلحة، أي يجب على صندوق الضحايا السوريين أن يجعل من الناجين صناعاً للقرار.
يجب ألا تقتصر المشاريع التعويضية على ما تراه الدول بأنه الأفضل، إذ ينبغي لأي صندوق يقام في هذا الاتجاه أن يتعامل أولاً وقبل كل شيء مع الضحايا ومنظمات المجتمع المدني التي يثقون بها، حتى لو كان في ذلك الأمر تحدياً لتنسيق الأمور على مستوى العالم. أما المرونة المطلوبة لإقامة هذا الصندوق فيمكن أن العثور عليها في منهجية الصندوق العالمي للناجين، والتي جرى تعديلها لتناسب الدول والناجين في كل بقاع العالم، إذ يمكن تطبيق هذا النهج على عدد كبير ومختلف من مجموعات الضحايا، وعلى أسر المختفين قسرياً أو المقتولين، وعلى الناجين من القصف، والناجين من الهجمات الكيماوية، وعلى كل من تعرضوا لتجربة التهجير القسري، وعلى كل من عاش تجربة الاعتقال. بيد أن هؤلاء الأشخاص يعيشون في مختلف أنحاء العالم، ولهذا يجب أن يكون هدف أي صندوق دولي يدعمهم هو تعويض كل شخص فيهم، بصرف النظر عن مكانه. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا عبر تضافر الجهود، والتعاون على إنشاء هذا الصندوق مع الناجين والمجتمع المدني.
المصدر: Just Security