(1)
المجموعة الشعرية (مُرّ بي) للشاعر السوري (خالد العيسمي) المغترب في ألمانيا والصادرة عن دار "نرد" في طبعتها الأولى 2021، كانت مدار فحصنا النقدي ونحن نتجول في عوالمها الشعرية. ومنذ نصه "سيدي الأزرق" تحضر تقانات الشعرية في توزيع هذا النص، مستفيداً من حضوره المتحقق على الفضاء الأزرق "الحاسوب" حيث يضع بياناته الشخصية وهذا أمر طبيعي في إنشاء صفحة، لكن إنشاء صفحة على وفق إملاءات خارجية مهيمنة.
"كشفت يا سيدي عن أسرار فرحي وأحزاني في صفحة طواها أنفك الذي تحشره رغماً عني في استعادة ذكرياتي.
فبربكَ بأي منطق بعد تريد أن أكتب لك شيئاً من سيرتي الذاتية". ص7
الذات الشاعرة وهي تمارس حريتها في التطلع إلى العالم، عبر صفحتها الشخصية المزمع إنشاؤها، لكن هناك ما هو أكبر، الآخر المهيمن الذي يمارس سطوته على الذات الشاعرة ويطالبها بكشف حسابها مبكراً، لكن الرد لا يأتي من الشاعر مستسلما بل جاء بصيغة "رغماً عن مداك الأزرق، سأستعيد حلمي الأخضر".
(2)
يعتني الشاعر خالد العيسمي بالتشكيل الصوري لنصه الشعري، عبر تراكيب لغوية مشحونة بحياة معاشة ومصطبغة بألوان الحدث الآني وتحولات الأمكنة، وإن جاءت بالطريقة السطرية على سطح الورقة، لكنها تستنطق معنى ما تدلنا إليه عبر تشكلها الحروفي، وصولاً إلى مشهدية يعتني في توصيفها حد الاقتراب من نص "السيناريو" في توزيعه الجمل الشعرية، لكننا نمسك بهذا التوليد الصوري لشعرية المشهد الذي أمامنا.
"غريب فقد شهية الكلام، يحمل حروفي المعطوبة كأنها خثرات ويرحل بها مع مخارجها المتصلبة دون أن يشخص أوجاعها؟
أتراه مر بي ..."
ذكرنا أن نصوص خالد العيسمي تشتغل على توصيف مشهدية الحياة برمتها في إطلالة مفتوحة، أسّها حياة الشاعر وسماؤها رسم عالم يجيد العيش فيه، يمد نسوغه نحو ذكريات تطفو لحظة صفاء روحي، وهي تحمل صليبها، راحلة لبلاد بعيدة، هذه الذكريات تحضر لا بوصفها وجعاً وأسى يتراكم، بل بوصفها قطعة من جمرِ هذه الحياة المغسولة بعذاباتها وعذابات الإنسان على مر العصور. وهنا يأتي دور الشاعر المكين لنحت هذه الذكريات وتحويلها إلى معادن شعرية لاصفة.
(3)
الذات تتأمل العالم وتستجلي البعيد، وتنقب في الأشياء المهملة ربما لتعيد رونقها لغرض الإمساك باللحظة الجمالية، في مساءلة فكرية، هل تحضر الأشياء بوصفها قطعاً وجودية، أم أنها معنى مضمر يعيد اكتشافه الشاعر عبر كيمياء لغته، حاملة أسئلة الوجود؟ والحب يحضر هنا في شعرية خالد العيسمي نوعاً من الموقف الشخصي، عابراً شحنته العاطفية المتوهجة، مستقراً عند مشهدية اللحظة بمواجهة "المرأة" حضوراً وكياناً ووجوداً متعيناً.
"ماذا لو/حررت الذكريات الجميلات بكِ
وأشعلت الثلوج حنيناً إليكِ
وأقمت في شراييني أعراس النبيذ
فهل لي/ في شتاء ألمانيا البارد/ أن تكوني آخر بائعات الومضات الدافئة
وأكون أول رجل يشتري منكِ كل أحلام الكبريت" ص27
هنا يعيد الشاعر بعث جدلية طالما شغلت الشعر والفكر والفلسفة والنقد، جدلية حضور المرأة في القصيدة، وغياب الذات الشاعرة عبر موتها، جدلية الحضور والغياب، جدلية موت المرأة كوجود أنطولوجي وتاريخ عابر، إزاء خلود القصيدة على مر التاريخ. جدلية بدايات الحب وبواكيره وانتقاله من مهاده العاطفي "السنتمالي" وهيجانه ربما، إلى قداسة الموقف من الحب وتجليات الذات الشاعرة في محرابه. وبهذا يبقى اشتغال الشاعر على طاقة الرؤية المنبعثة من ذاته تجاه الآخر امرأة/ بحراً/ حياةً/ أفقاً/ أمنيةً... محملة هذه الرؤية على تراكيب لغوية غاية في التجريد، عابرة استفاضة الكلام في بوحه، تراكيب لغوية تكتب برشاقة المُفكر به، وبحرفة الرائي المقتصد في التعبير حد الاختزال.
"توقف أيها المترنح من ثقل نصال الكينونة بجعبتك
مرّ بي كما يمرُ الغريب!".
(4)
في نصه "مرّ بي" الذي تأخذ المجموعة الشعرية عنوانها منه، نجد الشاعر متأملاً ذاته، واقفاً عند حدودٍ لا جغرافيا لها، بانتظار الآخر الحاضر بقوة في كينونة الشاعر بدليل الأفعال المرادِ اتخاذها أو فعلها بوجود الشاعر وهو ينتظر مجيئه:
"مر بي/ فما زلت أسكن ذات المدينة حمالة الأوجه
وبيتي ما زال في حي المرايا.
مر بي/ لا شيء تغير
إلا أني أصبحت انعكاس مجازك". ص23
على مشارف حافات الحياة، تتم استدعاءات المعاني/ عالم النوايا، والشعر حاضنة التعبير وتأويلاتها، ربما تتشظى اللغة وهي من طبيعة الشعر المراوغة لكنها تحضر هنا في نصوص "مر بي" جملاً شعرية مغلفة بأفكار مختزلة، مناجية حياة واسعة، وآفاق عابرة، وثمة الآخر الغريب البعيد.. الحاضر/ الغائب، ولأن الوجود الشخصي متعين هنا في المدينة حمالة الأوجه وفي البيت المقام في حي المرايا.
فهل يكفي هذا "دالة" للإمساك بحياة الشاعر وتاريخه؟ أم أنها لعبة مراوغة، طرفاها الحياة واللغة... الحياة باتساعها وفجائعها، واللغة بمواربتها وتأويلها وقدرتها على تحويل درامية المشهد الحياتي إلى انعكاس مجاز!
(5)
القاموس الشعري لخالد العيسمي مصدره الحياة بوقائعها، ونصوصه صور مكتنزة بمشاهدات الحياة وانعكاس الآخر في دواخله، مشاهدات تدوينية تحضر لا كتعبير مباشر وفجاجة ولا كبوح عاطفي لا ينتمي لكيمياء الشعر، بل تحضر بوصفها رسم مشهدية واقعية عملت ذات الشاعر على قلب معادلاتها وأفرغت الكثير من الزوائد والتفاصيل عنها، عابرة تداولية الكلام نحو تقشير الصورة الشعرية التي جاءت عبر اقتصاد كبير في جملها المتساوية ما بين الوضوح العالي وما بين الترميز الدال.. وأعتقد أن الكتابة الشعرية بمواصفاتها المحدثة قد اشتغلت على هذه المساحة.
"لماذا/ عندما يدهشنا الجمال الحي، نقول: كأنه لوحة، ثم نغرق بدقائق إبداعها...
فتصيبنا قشعريرة الذهول...
ونقول: تكاد تنطق!
فهل يحتاج وصف الجمال إلى غيبوبة ملونة ثم عودة من بعد الموت؟
أذكر مرة أنهم قالوا لي:
في بؤبؤ عينك لوحة تكاد تنطق/ فأصابتني قشعريرة من نور الغفران/
وسرقتُ لك من همس الورد صوتا". ص33
حين تمتحن الروح في أزماتٍ تخدش مراياها، ويحدث شرخ فيها، ينعكس هذا الفعل مؤكداً على طبيعة الذات الشاعرة وهي بودقة الرؤى ومجسات العالم والماحول، وبؤرة تسلم الشفرات الصورية التي تكون فيما بعد فسيفساء النص الشعري أو القصيدة تحديداً.
والحب هذه العاطفة السامية التي تخرج من كونها نزوعاً وجودياً وعاطفياً تجاه الآخر المعشوق، نراها هنا لدى خالد العيسمي خارجة إلى ما هو أكبر، إلى مساءلة كبرى تحضر فيها الذات الإلهية شاهداً على ما يجري، لأن مسرح الأحداث هو الأرض، والحب هو فضاء بحسب رؤى الشاعر، إن لم يكن مخلصاً للشاعر، ذاتاً وانتماءً ووجوداً كبشر يحيا هذه الحياة.
(6)
تؤكد المساحة الكتابية للشاعر خالد العيسمي على الاشتغال على اللغة كأداة تعبير مكينة في زمن العولمة، والتي لا بد من لغة اختزالية تمتص صورها الشعرية من خامات الكلام، والوصول إلى نص عابر للهذيانات والرطانة. من هنا اشتغل العيسمي وبكل إرادة وحب على قاموس محدثٍ يستعير من الحدث الآني صوراً مشهدية تلامس الكثير مما يحيطنا، وربما إلى حد تسمية الأشياء بمسمياتها، وبما يظهر لنا لبّ القول، مُخلصا أناه من فيوض الكلام المتراكم وتحت مسمى "قصيدة النثر"، ليصل بنا في العديد من نصوصه إلى لغة واضحة يكسوها الصفاء تحاكي واقعاً قاراً، معاشاً.. ذلك أن للشاعر هنا الحق في القول تصريحاً لا تلميحاً، وقولاً لا مجازاً، وصرخة مكتومة لا استعارات عالية .