أصدر سفير تركيا الأخير في سوريا عمر أونهون كتابه الذي حمل عنوان "سوريا بعين السفير التركي" الذي يقدم من خلاله معلومات وافرة عن شكل العلاقات بين البلدين والأحداث التي كان شاهدا عليها خلال الفترتين الزمنيتين التي كان بهما هناك. إذ عمل أنهون مستشاراً للسفير التركي جنك دواتبه بين عامي 1998 و2000، وتبوأ منصبه سفيراً لتركيا في سوريا بداية من عام 2009 وحتى عام 2012. وهو العام الذي سيشهد توترا وقطيعة في العلاقات، ليتم إعلانه في وقت لاحق "سفيرا غير مرغوب به" من قبل نظام الأسد كما يورد السفير في الكتاب بشكل ساخر، وهو الدبلوماسي الوحيد الذي كان في سوريا مستشاراً في فترة الأسد الأب وسفيراً في فترة الأسد الابن.
أهمية الكتاب وشكل العلاقات السورية التركية في تلك الفترة
يحتل الكتاب أهمية كبيرة فهو بمنزلة أرشيف للقاءات تركية سورية وتركية دولية ونقاط اجتماع واختلاف بين البلدين أوردها السفير بعناية في كتابه. بالإضافة إلى احتوائه على تفاصيل التحركات التي سيرتها تركيا في سوريا إبان اندلاع الثورة، بل وحتى قبلها قليلا في سبيل الحلول من دون انتقال شرارة الربيع العربي إلى هناك وحلحلة الوضع منذ البداية ووضع حد للتصرفات غير المسؤولة لنظام الأسد التي كان السفير شاهدا عليها في أكثر من موقف أسهب في شرحها كلها بالتفصيل في كتابه.
أونهون، الذي كان في فترتين زمنيتين مختلفتين في سوريا أراد من خلال تقديمه سلسلة من الخلفيات والسياقات للعلاقات بين البلدين في كل مرحلة كان فيها هناك تقديم إحاطة مفهومة لصورة العلاقات السورية التركية في كل فترة.
إذ على خلاف الفترة بين 1998 و2000 والتي كانت تملك الكثير من الملفات الشائكة، على رأسها إيواء نظام الأسد لزعيم تنظيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، فإن الفترة التي سترافق تعيينه سفيرا في سوريا كانت بمنزلة "الفترة الذهبية" للعلاقات بين البلدين والتي ستشهد إلغاء الفيز وتوقيع اتفاقية التجارة الحرة عام 2009 وزخما في الزيارات الدبلوماسية رفيعة المستوى.
وتكمن أهمية المرحلة الذهبية من العلاقات بين البلدين بكونها الأرضية التي ستبني عليها تركيا سياستها في سوريا في بداية الثورة والتي ستمهدها لحشد دبلوماسيتها بشكل كثيف ما بين لقاءات واتصالات وعلى أعلى المستويات مع رئيس النظام وأعوانه المقربين، وتلقينه النصائح وخرائط الطرق للخروج من الوضع القائم لكن "من دون جدوى".
يبرع السفير في إيراد شكل تطور الأحداث في سوريا عبر تسلسل زمني دقيق، من دون إغفال الخلفيات السياسية والديموغرافية والإثنية لسوريا. مما يجعل الكتاب بمنزلة مرجع واضح وسلس للراغبين بتشكيل صورة عما يجري هناك، وفهم طبيعة المساعي التركية بأبعادها كافة.
ويمكن من خلال قراءة التقييمات والتقديرات اللحظية التي كان يرسلها السفير التركي إلى الدولة التركية بشكل دوري والتي كانت تصيب في كل مرة إدراك مدى القراءة السليمة والنبوغ الدبلوماسي للسفير التركي.
بداية التحركات في سوريا ومساع تركية للحلحلة
تركيا كانت من أوائل الدول -إن لم تكن أولها- ممن تحركت بشكل مباشر في سوريا لأسباب عدة منها ما ذكرناه أعلاه، بالإضافة إلى الإدراك التركي لخطورة وتبعات خروج الوضع في سوريا عن السيطرة والذي سينعكس سلبا على الأمن التركي نظرا للقرب الجغرافي والحدود المشتركة الطويلة التي تربط بين البلدين. لذلك يقول السفير التركي إن سوريا في تلك الفترة كانت بشكل شبه دائم على رأس اجتماعات مجلس الأمن القومي التركي.
ويمكن من خلال قراءة المراسلات التي كان يجريها السفير بشكل دوري فهم مستوى القلق التركي في تلك الفترة بشكل أكبر. أما عن تأخر تركيا لإبراز موقفها مما يجري في سوريا الذي ستعلنه بشكل واضح فيما بعد نسبيا مقارنة بدول أوروبية، فيعلل السفير التركي ذلك بأن تركيا كانت حريصة على عودة الهدوء إلى سوريا وكانت ترغب في إظهار مصداقيتها لنظام الأسد برغبتها في المساعدة إذا احتاج ذلك، من تقديم خريطة طريق لاحتواء الأحداث أو إرسال مختصين أتراك إلى سوريا التي كانت ترى في تركيا آنذاك "الدولة النموذج".
يقول السفير التركي إنه كان يفضل عدم الانضمام إلى دعوات كان ينظمها معارضون سوريون لسفراء الدول إلى منازلهم لأنه وفقا له، تركيا كانت تسعى إلى تسكين الأمور وليس تصعيدها، ولذلك كانت حريصة على عدم قطع حبال التواصل مع النظام. وحتى في الفترة التي بدأ السفير التركي فيها بلقاء معارضين سوريين كان يحرص على إعلام نظام الأسد بذلك لإيصال جدية الدولة التركية في رغبتها تبوء دور الوسيط إن اقتضى الأمر.
لقاء الأسد وداود أوغلو وبدء "مرحلة القطيعة"
على الرغم من المساعي التركية الحثيثة في اتجاه منع التصعيد والنصائح المستمرة المقدمة للجانب السوري حتى قبيل اندلاع الاحتجاجات، فإن أسلوب المماطلة والخداع الذي كان يتبعه نظام الأسد مع الجميع وحتى مع حلفائه وصل إلى مرحلة لم تعد تتقبلها تركيا، وبدأت تتشكل قناعة لدى تركيا أن الأسد يحاول ضبط موقعه من خلال تأخير الإصلاحات.
آخر المساعي التركية وربما "الفرصة الأخيرة" لنظام الأسد الذي كانت التوترات قد بدأت بالتوسع معه بعد تصريحات نارية من الطرفين كان "اللقاء المارثوني" كما يصفه السفير في كتابه الذي جمع وزير الخارجية التركي آنذاك أحمد داود أوغلو ورئيس النظام في آب 2011 الذي استمر سبع ساعات. والذي حضر السفير جزءا منه.
قبلت سوريا على إثر هذا اللقاء مقترحا تركيا تضمن بنود عدة من بينها انسحاب قوات الجيش من حماة ودير الزور التي اقتحمها جيش الأسد آنذاك وإرسال السفير التركي إلى حماة لمعاينة الوضع من مكانه وإخراج قانون ينظم الإعلام خلال ثلاثة أو أربعة أيام وتقديم الأسد لخريطة طريق لشعبه خلال أسبوع وأيضا تغيير الدستور والسماح بقدوم المعارضين الممنوعين من دخول سوريا وعرض الدستور الجديد للاستفتاء.
ولكن، مع استمرار نظام الأسد بالمماطلة وتقديم الحجج ستتخذ العلاقة بين البلدين شكلا مختلفا كليا، تركيا ستفقد الثقة نهائيا ونظام الأسد الذي أدرك هذا سيحشد إعلامه للتهجم على تركيا وسيهبط التماس الدبلوماسي إلى أدنى مستوى له.
يتحدث السفير التركي أونهون عن شكل تعاطي نظام الأسد معه في الفترة الذهبية قائلا:
"كنت أجري مقابلاتي الرسمية في الغالب على المستوى الوزاري. أدنى رتبة مسؤول كنت ألتقي بها كانت نائب الوزير. وزير خارجية النظام آنذاك وليد المعلم وضعني في موقع مختلف عن موقع الآخرين. كان يتعمد إظهار ذلك".
ويضيف السفير أونهون أن النظام كان مدركاً تماما أن وقوف تركيا إلى جانب أحد الأطراف في سوريا سيؤثر في سير الأحداث بشكل كبير، الأمر الذي سيدفعها إلى استمالته نحوها. وكان السفير التركي يلتمس ذلك من خلال لقاءاته مع العديد من دبلوماسيي النظام مثل وليد المعلم وبثينة شعبان وأسماء أخرى.
لقاء السفير مع بثينة شعبان
يورد السفير في كتابه جزءا من لقاء جمعه ببثينة شعبان عندما زار مكتبها في القصر الرئاسي في البدايات الأول للاحتجاجات، حينذاك قالت له شعبان الآتي: "قلت للرئيس الأسد إنه يجب إجراء الدراسات اللازمة من دون إضاعة الوقت، وإنه من المفيد إرسال خبراء إلى تركيا أو دعوة خبراء من تركيا في هذا الإطار. كان من الأفضل لو تم اتخاذ الخطوات اللازمة عند بداية الأحداث. نحن متأخرون (..) الناس الذين هم حول الرئيس الأسد يضللونه. يشمل هؤلاء أفراد الأسرة وأقارب آخرون. البيروقراطية في سوريا غير كافية. هناك مشكلة في التنفيذ الفعال للقرارات. الفساد مشكلة. هناك الكثير من الفاسدين حول الرئيس".
وتتابع شعبان: "الناس يحبون الرئيس الأسد كثيرا، ومع ذلك، يحتاج إلى اتخاذ بعض الإجراءات، وتوفير الحرية، ومواجهة الفاسدين. وإلا فقد يتضرر. الحقيقة أن مطالب المتظاهرين مشروعة، يريدون العيش بدون ضغط من القوى الأمنية والمشاركة بشكل أساسي في النظام السياسي. لا يوجد خطأ في هذا، يجب تلبية المطالب المعقولة للناس. أعتقد أنه يمكننا الوثوق بتركيا وأخذها كمثال".
اعتبر السفير التركي حينذاك أن حديث شعبان هذا يحمل أهمية من كونه يصدر من شخصية مقربة لنظام الأسد إلى هذه الدرجة.
ويشدد السفير التركي أونهون في كتابه أنه حرص في كل لقاء له مع شخصية سياسية سورية على دعوة نظام الأسد (الذي كان رافضا الاعتراف بممارساته) إلى تغيير سياسة التعاطي مع الاحتجاجات، لأن ذلك سينسف كل الجهود التركية التي حرصت على خلق جو من الاعتدال عبر لقاءاتها مع دول مختلفة على رأسها الولايات المتحدة، الأمر الذي سيترك تركيا في وضع صعب.
الجهود التركية على الصعيد الدولي
حرصت تركيا بداية من السنوات الاولى للثورة السورية على المشاركة والدفع بتنظيم العديد من اجتماعات المعارضة السورية واستضافت العديد منها على أراضيها.
يتحدث أونهون في كتابه عن الصعوبات التي واجهتها تركيا في هذا الجانب أيضا، فأونهون الذي حضر عددا من هذه الاجتماعات وترأس الوفد التركي في بعض منها وأهمها اجتماع الدوحة الذي عقد بتاريخ تشرين الثاني 2012، والذي ستوحد المعارضة السورية فيه صفوفها تحت سقف "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية". يقول السفير إن تركيا كانت من الدول التي تعمل جاهدة "للتذكير بضرورة عدم خروج اجتماعات المعارضة التي تشهد الكثير من الانقسامات خصوصا في بداية تشكلها عن الأهداف والمبادئ المشتركة".
فضلا عن لعب تركيا دورا أساسيا في إقناع المعارضة السورية بالانضمام إلى اجتماع جنيف الثاني.
لكن الجهود التركية لم تنحصر في هذا الجانب فحسب، إذ كانت تركيا تخوض حربا دبلوماسية مع الأطراف الخارجية أيضا، وفي هذا السياق يتحدث السفير التركي في كتابه عن لقاء جمع بين وزير الخارجية التركي آنذاك أحمد داود أوغلو وجون كيري في إسطنبول.
يقول السفير إن كيري كان يشتكي من المعارضة السورية واصفا إياها بـ "غير الشاملة" ومن "الانقسامات" الموجودة في بنيتها، وعن وجوب وجود عدد أكبر من العلويين والدروز والمسيحيين بداخلها.
ويضيف السفير أن كيري قال في أثناء الاجتماع إن التهديد الأول بالنسبة للولايات المتحدة هي النصرة. حينذاك رد عليه داود أوغلو قائلا: "إن المتسبب الأول بكل ما يجري في سوريا هو الأسد، وإن هذه الأطراف تعتاش من بعضها. ومن الضروري عدم وضع كل مجموعة ذات مرجعية إسلامية في الكفة نفسها".
ويكمل الكاتب أن كيري في حديثه كان يبرز مواقف مختلفة عما تم إبرامه في جنيف ليرد عليه داود أوغلو أن تركيا ملتزمة بما تم العقد عليه في جنيف.
وبحسب السفير التركي فإن مشكلة الولايات المتحدة هي الحضور التركي القوي وعدم تحكم الولايات المتحدة بسير الأحداث.
فضلا عن إيراد السفير اتهامات لتركيا من أطراف دولية بأنها لا تبذل ما بوسعها لردع دخول المقاتلين الأجانب من أراضيها، وأن الرد التركي كان يأتي على شاكلة أن مسألة ردع المقاتلين الأجانب هي مسألة مشتركة بين الدول ينبغي عدم تحميل تركيا مسؤوليتهم فحسب.
الكتاب الذي يملك لقاءات دبلوماسية مع روبرت فورد وميشيل بوغدانوف وليبرمان وأسماء عدة، والتي تتناول كواليس معظم الاجتماعات والقرارات المتخذة في سوريا، يورد جزءا من لقاء جمع السفير التركي بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أيار 2014. يقول السفير إن لافروف قال له صراحة حينذاك إن الغرب خدعوا روسيا عندما استخدموا الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة في ليبيا، وإنهم لا يستطيعون تكرار ذلك في سوريا.