شكّك سياسيون وناشطون سوريون ولبنانيون بأن يكون انفجار مرفأ بيروت مساء أمس الثلاثاء، غير مقصود، وذلك نظراً لدلالات توقيته في وقت يعاني فيه لبنان من أزمة اقتصادية لا حلول لها في المدى القريب، وتزايد الضغط على نظام الأسد وحليفه حزب الله من قبل المجتمع الدولي، واقتراب صدور حكم المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري.
وأعلن الأمين العام للصليب الأحمر اللبناني جورج كتانة صباح اليوم الأربعاء ارتفاع عدد ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي وقع مساء أمس، إلى 100 قتيل وأكثر من 4 آلاف جريح. وإن مستشفيات بيروت لم يعد لديها قدرة على استيعاب تزايد أعداد الضحايا.
وأظهرت المشاهد الأولى واللاحقة بعد التفجير أضراراً كبيرة جداً في آلاف المباني والسيارات في دائرة يزيد نصف قطرها عن المرفأ أكثر من 3 كم. وقدّر محافظ بيروت حجم الأضرار الناجمة عن انفجار المرفأ بما بين 3 و 5 مليارات دولار أميركي.
وفي محاولة لوصف نتائج الانفجار المروع، قال رئيس الوزراء اللبناني حسان دياب "حجم الكارثة أكبر بكثير من إمكانية وصفها"، بتوصيف يشابه ما صرح به الرئيس ميشال عون "ليس هناك كلام يصف هول الكارثة التي حلت ببيروت".
ولم يكن ضمن حسابات الحكومة المترهلة في بيروت وقوع انفجار يتسبب بمثل هذه الكارثة، في حين صبت جهودها على التوصل لحلول لأزمتها الاقتصادية والنقدية المتصاعدة، ليثقل الانفجار كاهل الاقتصاد اللبناني بمزيد من الأعباء ويحرم خزينة الدولة من عائدات كبيرة.
مرفأ بيروت بالأرقام
بحسب بيانات يعرضها الموقع الإلكتروني لشركة مرفأ بيروت، فإنه يعتبر أكبر نقطة شحن وتخليص بحرية في لبنان، وتمر من خلاله قرابة 70 بالمئة من حركة التجارة الصادرة والواردة من وإلى البلاد.
وبحسب وكالة الأناضول التركية، تحول المرفأ منذ عام 1887، إلى مركز شحن وتخليص منظم، مع إعلان السلطات العثمانية منح امتياز الميناء لشركة عثمانية، وتم تعزيز الامتياز في وقت لاحق عندما حصلت الشركة من الجمارك على الحق الوحيد في تخزين وحمل جميع بضائع الترانزيت.
ويقع المرفأ في منطقة استراتيجية تربط بين الأسواق التجارية لكل من آسيا وأوروبا وأفريقيا، ما يعني تقليص مدة رحلات الملاحة التجارية مقارنة مع طرق أخرى. ولدى المرفأ، ارتباط مباشر مع 56 ميناء في القارات الثلاث، بينما يستقبل ويصدر البضائع بالتعاون مع 300 مرفأ حول العالم.
ويتألف المرفأ من 4 أحواض يصل عمقها إلى 24 مترا، إضافة إلى حوض خامس كان قيد الإنشاء. كما يضم 16 رصيفا والعديد من المستودعات وصوامع تخزين القمح التي تؤمن أفضل شروط التخزين.
وقد احتل مرفأ بيروت المرتبة 73 بين 960 مرفأً حول العالم، والمرتبة التاسعة بين 61 مرفأ عربياً على مؤشر الارتباط التابع لـ "شبكة النقل البحري المنتظم للمرافئ للعام 2019"، والذي يصدر سنوياً عن منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أو ما يعرف بـ الأونكتاد UNCTAD.
وعلى الصعيد العالمي، يتمتّع مرفأ بيروت بارتباط أفضل بشبكات الشحن العالمية من مرفأ أسدود الإسرائيلي، ومرفأ ألياغا في تركيا ومرفأ مانزانيو في بنما.
وخلال السنوات 2005 - 2018، نمت حمولة البضائع عبر المرفأ بمتوسط سنوي 4.6 بالمئة من 4.48 ملايين طن سنويا في 2005 إلى متوسط 8 ملايين طن في 2018.
واستقبل المرفأ في عام 2018، قرابة 7.05 ملايين طن من السلع تمثل نسبتها 72 بالمئة من إجمالي واردات السلع عبر البحر، مقابل صادرات بقرابة مليون طن تمثل 78 بالمئة من إجمالي حجم الصادرات.
وخلال 2018، بلغ عدد السفن التجارية التي نفذت عمليات شحن أو تخليص للسلع بنحو 1872 سفينة، إلا أن الرقم الأكبر يعود لعام 2009 بواقع 2400 سفينة تجارية.
ولم يكن العام الماضي هو الأفضل ماليا بالنسبة لمرفأ بيروت، بسبب التطورات الاقتصادية السلبية في البلاد، وأثرها على تراجع حجم الطلب المحلي على الاستهلاك، وبالتالي تراجع حركة التجارة.
وتظهر بيانات المرفأ، أن إجمالي إيراداته خلال 2019 لم تتجاوز 200 مليون دولار، مقارنة مع 313 مليون دولار في 2018، بينما لم تتجاوز الإيرادات 90 مليون دولار في 2005.
والثلاثاء، وفي محاولة سريعة من السلطات لتخفيف الخسائر، أوصى مجلس الدفاع الأعلى في لبنان، بتجهيز مرفأ مدينة طرابلس (شمالي البلاد) لتأمين العمليات التجارية من استيراد وتصدير.
ولدى لبنان خمسة مرافىء رسمية، أكبرها مرفأ بيروت، إلى جانب كل من صيدا، وصور، وطرابلس، وجونية، إضافة إلى مرافئ متخصصة كمرفأ "شكا" و"الجيه" المتخصصة في تفريغ أنواع معينة من السلع كالوقود.
ومنذ يوم أمس في لحظة وقوع الانفجار، سيتلقى الاقتصاد اللبناني خسائر يومية ولمدة لم تكون قصيرة، بسبب توقف الرسوم الجمركية، وكذلك بسبب عدم القدرة على إعادة بناء المرفأ مجدداً. والفترة الطويلة المطلوبة لبنائه في حال تم استثماره من قبل شركة أجنبية.
ليست كل إيرادات المرفأ للخزينة
عند افتتاح المرفأ عام 1894 كان تحت إدارة شركة فرنسية هي شركة "مرفأ وأرصفة وحواصل بيروت" بموجب امتياز من السلطنة العثمانية. وفي العام 1960 استردت حكومة الرئيس هنري فرعون الامتياز من الشركة الفرنسية ومنحته إلى شركة إدارة واستثمار مرفأ بيروت. لتعمل على تطويره ليصبح مرفأ إقليمياً كبيراً.
وخلال الحرب الأهلية اللبنانية كان المرفأ ميداناً لمعارك شرسة في أيار 1976، للسيطرة عليه كموقع استراتيجي عسكرياً ومليء ببضائع تقدر حينها بنحو مليار دولار. وفي نهاية العام 1990 انتهت مدة الامتياز الممنوح للشركة اللبنانية ما دفع الحكومة لتشكيل لجنة مؤقتة لإدارة المرفأ واستمرت هذه اللجنة حتى اليوم وتحولت إلى لجنة دائمة.
ولكن هذه اللجنة وبعد أن أصبحت دائمة إلا أنها بقيت حتى يوم الانفجار تفتقد للإطار القانون المؤسساتي. فهي لا تخضع لأية رقابة من ديوان المحاسبة أو من وزارة المالية على الرغم من أنها تدير مرفأ عاماً وتحصل على إيرادات تقدر وسطياً بأكثر من 250 مليون دولار سنوياً، ووسطيا لا تحصل خزينة الدولة على أكثر من 25 بالمئة من هذه العائدات، في حين تتحكم اللجنة المؤلفة من 7 أشخاص في عمليات الإنفاق بين تطوير المرفأ أو صرف مبالغ أخرى لجهات خدمية أخرى في لبنان.
وبحسب دراسة صادرة عن المديرية العامة للدراسات والمعلومات في مجلس النواب في كانون الأول 2019، فإن اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت تدير تعاملاتها المالية خارج أي أطر تشريعية، كما أن اللجنة لم ترسل لوزارة المالية أي حسابات أو تقارير سنوية منذ أعوام عدة. وقدّرت الدراسة الإيرادات السنوية لمرفأ بيروت بنحو 240 مليون دولار يتم تحويل ما يقارب 40 مليون دولار منها إلى الخزينة العامة، في حين يتم إنفاق المبالغ المتبقية تحت بنود تشغيل وصيانة الميناء.
نفوذ حزب الله في مرفأ بيروت
يأتي انفجار مرفأ بيروت بعد عام من تصريحات إسرائيلية بأن حزب الله زاد من نشاطه في المرفأ ضمن عمليات التهريب ونقل الأسلحة القادمة إليه من فيلق القدس الإيراني.
وفي الـ 24 من تموز من العام الفائت، قال مندوب إسرائيل الدائم لدى الأمم المتحدة داني دانون، "إن إسرائيل اكتشفت في 2018 و2019 أن إيران وفيلق القدس زادا من استخدام القنوات البحرية المدنية"، وأن مرفأ بيروت تحول إلى "مرفأ حزب الله"، حسب قوله.
ومن جهته نفى زعيم حزب الله حسن نصر الله حينها الاتهامات حول استخدام الحزب لمرفأ بيروت لنقل الأسلحة وفي عمليات التهريب. في حين اعتبرت مندوبة لبنان لدى الأمم المتحدة، أمل مدللي، التصريحات الإسرائيلية تهديدا مباشرا للبنية التحتية اللبنانية، ودعت الأمم المتحدة للتحرك إزاء هذا التهديد.
وأكّد مصدر من العاصمة بيروت لموقع تلفزيون سوريا بأن العنبر رقم 12، الذي وقع فيه الانفجار مساء اليوم في مرفأ بيروت، يتبع لحزب الله بالكامل ويستخدمه الحزب في عمليات التهريب ونقل الأسلحة.
وفي مؤسسات الدولة الخاضعة للرقابة رسمياً، تنامى نفوذ حزب الله بشكل واسع في السنوات الماضية، وبذلك سيكون ميناء بعيد عن الرقابة مرتعاً سهلاً للحزب في أعمال التهريب والسوق السوداء. وعندما تسلم سعد الحريري رئيساً للحكومة العام الفائت، زار المرفأ وهدد كل من يقوم بالتهريب عبره بأنه "سيصطدم بالدولة".
وفي شباط الماضي، نقلت صحيفة العرب عن مصادر بأن صندوق النقد اشترط على لبنان لمنحه قروضاً، القيام بإصلاحات بإشراف خبراء منه، وعلى رأس هذه الشروط وجود مراقبين للصندوق نفسه في مطار بيروت ومرفئها، للتأكد من أن المطار والميناء ليسا مفتوحين أمام عمليات تهريب كبيرة لبضائع معيّنة تصبح معفاة من الرسوم الجمركية "تذهب إلى تجار يتمتّعون بغطاء من حزب الله".
انعكاسات الكارثة على الاقتصاد السوري
كان حزب الله خلال فترة الاحتجاجات الشعبية المنددة بتردي الأحوال المعيشية، في قلب العاصفة، وحمله الناشطون اللبنانيون المسؤولية الأولى إلى جانب باقي الأحزاب السياسية في البلاد، وزادت الضغوطات على الحزب خاصة فيما يتعلق بتخفيف سطوته على مؤسسات حكومية وتغيير سلوكه، لحصول لبنان على دعم خارجي يخفف عنه مصائب الانهيار الاقتصادي. وبناء عليه لا يمكن الجزم فيما إذا كان انفجار المرفأ سيعود بالضرر على حزب الله تحديداً، وخسارته لأهم نقطة توريد وتهريب وتمويل لأنشطته أو سيكون انعكاس الانفجار عليه إيجابياً فيما إذا نظرنا إلى الاحتمال بأن الحزب سيخضع لشروط صندوق النقد ويترك المرفأ وبالتالي ستتحول نشاطاته إلى المرافئ والموانئ السورية.
وكشفت صحيفة الثورة في بداية العام 2011 في مقال بعنوان (مرفأ طرطوس ورشة إنتاج متسمرة)، بأن 2368 سفينة دخلت مرفأ طرطوس في العام 2010، وتم استيراد 10 ملايين ونصف المليون طن من البضائع في حين تم تصدير 2 ونصف طن من المواد.
وبلغت إيرادات مرفأ طرطوس الإجمالية لسنة 2011 بحسب عماد عبد الحي معاون وزير النقل لشؤون النقل البحري في حكومة النظام حينها، نحو 3.2 مليار ليرة سورية. وأما الإنتاج فبلغ 11.5 مليون دولار، والحاويات 60,000 حاوية.
وفي حال دفع النظام ومن خلفه موسكو التي تسيطر على ميناء طرطوس، باتجاه أن يكون بديلاً مناسباً عن مرفأ بيروت، فإن حصة حزب الله لن تكون في هذا المرفأ، بل في مرفأ اللاذقية الذي تسعى إيران للسيطرة الكاملة عليه بهدف الوصول إلى المتوسط.
وميناء اللاذقية هو الميناء البحري الأول في سوريا ضمن عمليات استيراد وتصدير البضائع غير النفطية. وفي ظل شح المعلومات والإحصائيات الرسمية الصادرة عن حكومة النظام في سوريا، فإن آخر الإحصائيات تشير إلى أن ميناء اللاذقية قادر على تخزين أكثر من 620 ألف حاوية، عبر 23 رصيفاً، حيث بلغ عدد السفن التي استخدمته عام 2007، 1800 سفينة، وزادت إيراداته عام 2011 عن 2.4 مليار ليرة سورية.
وحتى في حال أصدرت حكومة النظام إحصائيات جديدة حول كمية التبادل التجاري مع لبنان وإيرادات النقل بالعبور (الترانزيت)، إلا أنها لن تكون موثوقة نتيجة لوجود أكثر من 120 ممراً للتهريب بقيادة حزب الله بين البلدين.
اقرأ أيضاً: اكتمال مسار الدوريات على M4.. الطرق الدولية بين الاتفاقات وقيصر
إذاً في حال تمكن نظام الأسد من فرض موانئ سوريا كبديل عن مرفأ بيروت، فذلك سيساهم في نجاح جهود موسكو الفاشلة حتى الآن في تطبيع الدول المعنية بسوريا علاقاتها مع الأسد اقتصادياً، ومن ثم تطوير حالة التطبيع هذه سياسياً.
أما إذا فشل النظام في ذلك، وخاصة بالنظر إلى الحواجز التي قد يضعها قانون قيصر في التعامل حتى اقتصادياً مع النظام أو حتى حلفائه الروس والإيرانيين؛ فسيلحق بالنظام خسائر اقتصادية هو الآخر متمثلة بانخفاض حاد في عدد الشاحنات الترانزيت التي تنقل البضائع من الدول الأوروبية وغيرها إلى الخليج العربي عبر لبنان ومن ثم سوريا فالأردن التي تدخلها الشاحنات من معبر نصيب الحدودي.
وفي كل الحالات فإن عملية ترويج الموانئ السورية إن حصلت تحتاج لوقت طويل، بينما ستظهر أولى نتائج الانفجار في سوريا بصورة فقدان مواد غذائية وغيرها، حيث لن يكون هنالك في وقت قريب فائضاً من السلع التجارية في السوق اللبناني لتصدره إلى سوريا.