الاسم يحيلنا مباشرة إلى رواية الكاتب الفرنسي العملاق فيكتور هيجو "أحدب نوتردام"، الذي منح كاتدرائية نوتردام شهرة عالمية أبقتها في ذاكرة الناس حتى يومنا هذا.
لم يكن أحد يتوقع أنّ هذا الصرح العظيم سيتعرض لتلك الكارثة عام 2019 حيث التهم الحريق ذلك الأثر التاريخي والإنساني والذي جاهدت فرق الإطفاء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الكنوز الفنية داخله. لكننا الآن أمام مسلسل من 6 حلقات، عُرض على نتفليكس وحمل عنوان "نوتردام"، ليحكي قصة حريق الكنيسة المشهورة.
15 نيسان 2019 تاريخ لن ينساه الفرنسيون، وسيتذكره الكثيرون من المهتمين حول العالم. فعند الساعة الـ18.50 اندلعت النار في الجزء العلوي من الكاتدرائية، واجتاحت برج الجرس والمستدقة المركزية. كان حريقا هائلا ورهيبا تابعه العالم بذهول.
بدأ ذلك الحريق في سقف الكاتدرائية من الوسط، واتجه إلى قاعدتها. ولم يصمد البرج كثيرا فانهار مع السقف المصنوع من الخشب.
أنقذ الكاتدرائية من الانهيار الكامل وجود تحصين حجري في منطقة أسفل السقف، خفّف من انتشار النار وساهم في إنقاذ باقي المبنى، ولكن الحريق أتى على كثير من الأعمال الفنية، وأتلف الجزء الأكبر منها.
على منصة نتفليكس نجد أضخم عمل درامي يتناول حريق نوتردام، وقد أخرج المسلسل "هيرفي هادمار" HERVE HADMAR واعتمد فيه عدة محاور درامية، تتنامى تدريجياً على هذه الصورة:
- المحور الأول، يشكل الخط الدرامي الأساس للعمل ويمثل حريق الكنيسة وآليات التعامل معه، حيث يلقي الضوء على حيوات رجال الإطفاء في تلك المعركة الصعبة مع النيران، حيث لا يتوقف الأمر على إنقاذ الأرواح، بل يتعداها لإنقاذ الكنوز النفيسة للكاتدرائية ويأتي في مقدمتها تاج الشوك الذي وضع على رأس المسيح، ونعيش في هذا الخط الدرامي مع أهم القرارات الصعبة التي اتخذت في أثناء تلك الملحمة.
يرتبط في هذا المحور خط درامي يلقي الضوء على علاقة حب تجمع فتاة وشاباً كلاهما يعمل في الخدمة الإطفائية، يموت الشاب في حريق سابق وهو ابن الجنرال المسؤول عن خدمة الإطفاء في باريس بينما تجد الفتاة فرصتها التاريخية في إنقاذ الأرواح كُرمى لروح حبيبها.
كذلك يرتبط بهذا المحور خط درامي آخر لفتاة فرنسية إعلامية تبحث عن الشهرة والمال، فتترك خطيبها، وتنتقل إلى باريس لتعمل في إحدى محطات التلفزة، وتحب أحد رؤسائها في العمل، ونراه يدفعها دفعاً إلى المخاطرة بروحها من أجل لقطات حصرية من شأنها رفع نسبة المشاهدين للقناة التي تواجه حالة ركود، بينما تشاء المصادفة أن يكون خطيبها السابق في غرفة القيادة لإطفاء حريق الكنيسة.
- المحور الثاني، لرجل يكافح تحت وطأة ديونه في استرداد ابنته "فيكتوار" التي جرفتها المخدرات بعيداً عن أسرتها، يريدها فقط أن ترى أمها التي تشرف على الموت في المشفى، وهذا الخطّ الدرامي يلقي الضوء على القاع السفلي لباريس حيث تجارة المخدرات الخارجة على القانون وتجارة الجسد والمراهنات غير الإنسانية عند عبدة المال، وفيه نرى بوضوح عمل العصابات بكل ما فيها من جرائم.
- المحور الثالث، لطبيب سوري لاجئ من مدينة دير الزور يفقد زوجته في طريق الهجرة، ويعيش هلوسات واضطرابات ما بعد الصدمة، كان في الكنيسة بين مجموعة عمال يجرون بعض الإصلاحات، وكان آخر من يخرج منها.
يقتصر دور ذلك الطبيب على إظهار حالة اللاجئ السوري الذي يعيش كما أسلفنا تلك الاضطرابات، حيث يرى امرأة تشبه زوجته فيبدأ بملاحقتها في محاولة منه لرسم وجهها عن قرب، إذ كاد ينسى ملامح زوجته، لنتفاجأ باختفائها من أمامه في نهاية المسلسل بينما هو جالس معها ويرسمها بقلم فحم كان بيده، ويتبادلان الحوار، لندرك أنه استحضرها ذهنياً، وبأنها لم تكن موجودة سوى في ذهنه. ما علاقة هذا الاضطراب بالخط الدرامي الأول؟ أعتقد أنه على المشاهد فقط استنتاج ذلك.
في المحاور الثلاثة تلعب المصادفة فقط في جمع شخصيات المسلسل ببعضها بعضا وفي مواقف لا علاقة لها من قريب أو بعيد بحريق الكنيسة، لدرجة أن حذف المحورين الثاني والثالث من المسلسل لن يؤثر مطلقاً بالسلب على الموضوع الرئيس له، ما يدفعنا للتساؤل عن سبب تضمين السيناريست لهذين الخطين الدراميين. لعلها رغبة المخرج والمؤسسة المنتجة في جعل المسلسل ذا طابع عالمي.
قد تكمن الإجابة في متابعة ورصد الحياة الاجتماعية والدينية لشخصيات المسلسل؛ فالجنرال قائد عملية الإطفاء، رجل غير متدين يعيش مع زوجته بحب واستقامة، تليه في الرتبة العقيد غابرييل، وهي امرأة متدينة تُمارس المثلية بالسر.
أما " ماكس" الباحث عن ابنته، فلا همّ له سوى العمل وإنجاح مشروعه (مطعم فلافل) الذي يرزح تحت وطأة ديون استدانها من زعيم عصابة (ريكو) الذي يعبد المال فقط، بينما نجد ابنة "ماكس" تعيش متعتها الخاصة في المخدرات والجنس ولا تؤمن بغير تعويذة "أبراكدابرا" التي ترسخ مقولة (أنا أخلق ما أقول) ويُعتقد بقدرتها على الشفاء من الأمراض.
وإذا استثنينا الحوارات المتعلقة بالخط الدرامي الأول (الحريق) فإن معظم الحوارات الهامة المتبقية تتناول فلسفيا فكرة المعتقد، خاصة في الحلقة السادسة عندما يُلخص "ريكو" المسألة بطريقة ذكية تدل على حالة من الجهل العام إزاء البعد الإنساني المغيب ويختصرها بقوله: "هل علينا الإيمان بـ (لا أعرف)؟".
إلا أن النقطة المضيئة حسبما أظن في هذا العمل الدرامي الضخم كانت في رحلة فيكتوار مع الطفل "بيلي" الذي أنقذته من الغرق بدوافع إنسانية بحتة، ثم أنقذها فيما بعد من الضياع، ضمن حالة من التناغم الإنساني البريء حيث نجد الدعم المعنوي عفوياً وتلقائياً.
فهل يُحاول المسلسل أن يُظهر حريق الكنيسة نتيجة لهذا الضياع الإنساني، وغياب القيم وإهمال الجانب الديني، أم أن هذه النتيجة لا تعدو كونها أكثر من هلوسات واضطرابات ما بعد الصدمة؟