"ما بعد الثورات العربية: إعادة التفكير في نظرية الانتقال الديمقراطي"، كتاب صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يحتوي على دراسات لباحثين من فلسطين والسودان ومصر وإيران وسوريا والمغرب. تتمحور دراساتهم جميعًا حول موضوع الانتقال الديمقراطي في العالم العربي وإشكالياته، ونسبة التأثر بنموذج الانتقال الديمقراطي الغربي في حقبة ما بعد الربيع العربي، ومسائل الثورة والاستعمار، وأنماط النُّظُم التسلطية، ودور الفاعليات والنخب النسائية في الانتقال الديمقراطي، والعلاقة بين الدين والانتقال الديمقراطي، وتحديات إصلاح القطاع الأمني. حرر الكتاب عبد الوهاب الأفندي وخليل العناني، وهو يقع في 384 صفحة.
ويتمحور كتاب ما بعد الثورات العربية، حول نقد مركّب لنظريات الانتقال الديمقراطي من جهة، ولمنتقدي "نموذج الانتقال" من جهة أخرى، إضافةً إلى مراجعة هذا النموذج في ضوء التجارب العربية، بهدف رفع العرب قضاياهم الاجتماعية والإنسانية المحورية إلى مقام الندّية بدلًا من التبعية. كان هدف الكتاب أولًا نقد نظريات الانتقال بتمحيصها وتقييمها موضوعيًّا، خدمةً للمجتمعات التي تعاني تحديات في إرساء الديمقراطية، وثانيًا زرع الأمل من دروس التجارب العربية في هذا المضمار، وثالثًا سبر إمكانية شمولية التنظير (وضع نظرية) وعالميته، ومقابلة النظرية بواقع مفارق لمصدر افتراضاتها ثم اختبار صدقيتها بواقع لم تأخذه في الاعتبار، ورابعًا تقديم أفكار تساهم في مراجعتها وتحديثها وتطويرها.
وكان سبق للمدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عزمي بشارة، أن لخّص في ورشة المركز "مشروع التحول الديمقراطي ومراحل الانتقال في البلدان العربية" تحديات إرساء الديمقراطية نظريًّا في النقاط التالية:
- إن التجارب العربية من أجل الديمقراطية حالات ملهِمة للباحثين في التنظير، فهي تجارب وُضعت موضعَ تساؤل نظريات سائدة؛ إذ لم تنتج الحالتان المصرية والتونسية شرخًا داخل النخبة الحاكمة - كما تنبأت تلك النظريات - إلّا حول تحييد المؤسسة العسكرية، وإن إصلاحات هذه النخبة إنما حصلت بضغط خارجي، في حين وقعت في المقابل شروخ في معسكر الثورة سمحت لبقايا النظام القديم بالمناورة وتقويض الثورة.
- إن نقد نظريات الانتقال يمكن أن ينطلق من فرضية مساهمة تعمُّق انقسامات المعارضة، بتأثيرٍ من المنافسات الانتخابية قبل إسقاط النظام، في تعثّر الانتقال وعرقلة الثورة.
- لا يمكن فصل مسألة "غياب الديمقراطية" عن محاولات إرسائها ومعوقاتها، فالديمقراطية هي الوضع الطبيعي وغيابها هو الاستثناء.
كتاب ما بعد الثورات هو نتاجٌ للحوار الكثيف في تلك الورشة وذاك المشروع وما أعقبهما من فعاليات أخرى تخص المركز وغيره من المؤسسات الفكرية في الوطن العربي والخارج، وتُخضع فصولُه تنظيرَ الانتقال الديمقراطي لأسئلة فاحصة، بدءًا بالانتقادات الشرسة في مطلع الألفية الثالثة حول تفاؤله المفرط بشأن فرص الديمقراطية في الدول النامية، والترويج لحتمية الانتقال نحو الديمقراطية تلقائيًّا عند سقوط الأنظمة التسلطية، وتبسيطه الانتقال باعتباره تحولًا مباشرًا من التسلطية إلى الديمقراطية من دون شروط مسبقة، وتركيزه على محورية الانتخابات في الانتقال. ويعتبر الناقدون هذه الافتراضات أوهامًا، فالتحولات من السلطوية برأيهم إما تُرجع إلى الاستبداد، وإما إلى أنظمة "رمادية" مشوهة أو فاسدة، وربما إلى تفكك الدول وانهيارها، فالانتخابات لا تؤدي بالضرورة إلى ديمقراطيات إذا لم يسبقها بناء الدولة وبيئة ثقافية وأوضاع اقتصادية واجتماعية مواتية، وعليه يجب التخلص من وهم حتمية الانتقال الديمقراطي ويسره في الدول النامية المحتاجة إلى وقت طويل قبل بلوغ الديمقراطية، وإنْ بطرق متعرجة وسقطات وربما بعودة كاملة إلى التسلط.
أكدت خلاصات الكتاب أهمية دراسات الانتقال ومحوريتها في حقل السياسة المقارنة، وناقش المساهمون فيه فرضيات نظريات الانتقال ومقولاتها، مع توضيح أخطاء وسوء فهم سائدَين حولها، تمهيدًا لنقد إيجابي يرفض فرضيات بعينها أو يدعو إلى مراجعتها، واختبار نظريات وفرضيات بتطبيقها على التجارب العربية أو العالمية للخروج بنتائج تساعد في إعادة صياغة النظري.
ينتقد عزمي بشارة في الفصل الأول تيار منتقدي النموذج، معتبرًا كثيرًا مما نسبوه إلى نظريات الانتقال، كادّعاء حتمية الانتقال وخطّيته، غيرَ صحيح، وأن دراساتهم الرصينة ليست نظريةً، فضلًا عن أن تكون نموذجًا "مهيمنًا" كما يروجون؛ إذ سماها أحدهم "استنتاجات أولية" وآخَرُ "تمنيات مستبصرة"، ويُسنِدها بشارة إلى تجارب من جنوب أوروبا وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية كانت شروط الانتقال تتراجع فيها مع كل تجربة جديدة، كدراسات الديمقراطية التوافقية، التي لم يبقَ منها إلا أثر بعد عين أو مقولات بدهية. ولا مأخذَ لبشارة على أن هذه الدراسات تفترض الديمقراطيةَ غايةَ التحول، فقد أجراها باحثون يؤمنون بالديمقراطية، وآخرون في أميركا اللاتينية قبل قيام الديمقراطيات بهدف إيجاد السبل إليها، مع رفض أي اشتراطات مسبقة (نمو اقتصادي، مستوى تعليمي، استعداد ثقافي ... وغيرها) تستتبع في نظرهم تأخر الانتقال في القارة عقودًا.
في الفصل الثاني، يستعرض عبد الوهاب الأفندي ديناميات التوجّس بين أنصار السلطة وداعميهم الأجانب عند كل انتقال، وأن الأفضل لإنجاز الانتقال هو توفير "عدم يقين منضبط" يؤمّن تغييرًا محدودًا بعمليات انتخابية لا تهدّد مصالح الكيان السياسي وتضمن حق الأقليات. ويتطرق الأفندي إلى آراء باحثين في محورية مفهوم "الاعتدال" في الانتقال الناجح، وكفالته التوافق بين "معتدلي" النظام والمعارضة، على الرغم من "زلاقة" مفهوم الاعتدال، فنيلسون مانديلا وياسر عرفات وجيري آدمز، على سبيل المثال، صُنّفوا على أنهم شخصيات متطرفة لكنهم نالوا جائزة نوبل للسلام بوصفهم رموزًا للاعتدال في آن، وفي أميركا اللاتينية قَبِلَ زعماء الحركات اليسارية المسلحة ومفكّروها بالنظام الرأسمالي لأجل تحقيق الاستقرار الاقتصادي، ومنهم من نظَّرَ للديمقراطية من داخل الولايات المتحدة، ما يشبّهه الأفندي بـ "الاستسلام" للهيمنة الرأسمالية، ويرى أن عاقبة "الاعتدال" إيجابيةٌ على المدى الطويل إلا أنها مضرّة بوجود أنظمة وحشية، فمع الخوف والتوجس يظهر التطرف والتشدد، داعيًا إلى ابتكار مصطلحات جديدة لفهم النموذج الاستبدادي العربي، مستعيدًا مفهوم "دولة الثقب الأسود" لوصف شكل الدولة العربية وتحولاتها بين المَلكيات والجمهوريات وتحولها - كالثقب الأسود – إلى مصدر خطرٍ مستمر وعدم استقرار.
وركّز آصف بيات في الفصل الثالث على فرادة الثورات الجماهيرية العربية بعدم وقوف تنظيم أو قيادة محدَّدَين وراءها، وبتفجُّرها في وقت كسوف الفكر الماركسي؛ ما ساهم في فشلها بالرغم من إسقاطها قيادات الأنظمة؛ لأنّها لم تحقّق تحوّلًا ثوريًّا استبدل نموذجًا جديدًا - مستقرًّا أو فوضويًّا - بالنظام القائم، ولم تفاوض النظام لتكريس تغيير محدود على أمل تحوُّله لاحقًا جذريًّا، واستعار بيات في وصفها مصطلح "الثور-إصلاحية"؛ أي أنها جمعت بين الثورية بإزاحة الرؤوس وبين الإصلاحية بالتفاوض مع الجيش والاعتماد على المؤسسات القائمة للإصلاح، وهي استراتيجية ربما كانت لتنجح لولا تصدّر "المتسلقين" المشهد والتسامح مع بقايا النظام الذين قادوا الثورة المضادة وقضوا على المكاسب.
في الفصل الرابع، يرى حميد دباشي أنّ المآخذ على النقاش حول الانتقال تنحصر في مفاهيمه عن المركزية الأوروبية، ومن ثم تقصيره في تفسير أحداث أماكن أخرى، وكذلك في الأسئلة المُهينة عن كون الإسلام والثقافة العربية متوافقَين مع الديمقراطية، وفي تقصير نماذج قياس الديمقراطية العربية في الولايات المتحدة والهند وأوروبا، ومن أهم المآخذ تسميته مستعمرة قائمة على الاستيطان هي إسرائيل بـ "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، في مثال واضح عمّا سمّاه هيمنة "الميثولوجيا" في الفكر السياسي الغربي الحديث، وافتقاد الدولة ما بعد الكولونيالية للشرعية، أولًا بتناقضها مع "أسطورة" سياسة الإغريق الخالية من العنف وسط واقع انتشار العنف في كل مكان اليوم، وثانيًا بالعنف العاري للهوامش المستعمَرة. ويرى دباشي أن ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" يكشف عن "داعش" في قلب كل دولة حديثة قامت الانتفاضات ضدها في رد فعل تصحيحي لأزمة الليبرالية الجديدة.
ينتقد لؤي علي في الفصل الخامس أدبياتٍ اتَّخذت تحليلَ أنماط النظم التسلّطية سبيلًا لتفسير مسارات الربيع العربي، ويستنتج عدم صدق توقعاتها، كما تعرّض لتصنيف النظم بحسب طبيعة النخب المسيطرة (عسكرية، حزبية، شخصانية)، أو أسلوب تداول السلطة (وراثي، عبر القوة العسكرية، الانتخاب)، أو كيفية تمكين النخب (التشريع، التدخل العسكري، القيود على العمل السياسي). تشير نظريات الربط بين التصنيف وعمر الأنظمة إلى أنّ الأنظمة العسكرية تنتهي في الغالب بتفاوض، في حين تتمسك الأنظمة المشخصنة بالسلطة حتى النهاية.
في الفصل السادس يتناول عبد الفتاح ماضي الدور المحوري للأطراف الظاهرة والخفية في التحول، ويعتبر فشل الثورة في إنجاب قيادات للسلطة أهمَّ معوقات الانتقال، ويستنتج أنّ توافق النخب في نجاح تونس يصدِّق نظريات الانتقال حول دور النخب وقلة التدخلات السلبية، وفشل مصر سببه اكتفاء الفاعلين بإسقاط النظام وقلة مساهمتهم في بناء نظام جديد، واتساع الفجوة بين الجماهير والنخب العاجزة عن استثمار نجاح الجماهير، وأخيرًا إلى الاستقطاب بين النخب (إسلاميين وعلمانيين).
في الفصل السابع، تُلقي ثورية السعودي الضوء على الدور الفاعل للنخب النسائية في المغرب خلال الربيع العربي في الدمقرطة والانتقال، وهي إذ تستخدم مصطلح "النخبة" فللإشارة إلى نساء الطبقة العليا ذوات إمكان الوصول إلى البلاط الملكي، أو المثقفات والناشطات في مجالاتٍ مدنيةٍ وسياسية، كما تذكّر السعودي بالأبعاد القيادية للطليعة النسوية التي سبقت الثورة بعقدين وكانت لها مساهمة كبيرة في صوغ مفهوم الديمقراطية داخل أحزابها، ونضالهن لاختراق مراكز صنع القرار التي هيمن عليها الذكور وتقديم مطالبهن، واستغلالهن وسائل الإعلام والقنوات الدولية لممارسة الضغوط على المستوى الوطني، ولم يفقدن فاعليتهن حتى بعد تشكيل حكومة الإسلاميين المعتدلين، بل استطعن تعبئة بعض قواعدها النسائية لتحقيق مطالبهن. وقد سبق دور النخب النسائية في المغرب الربيعَ العربي بسنواتٍ.
ويلاحظ خليل العناني في الفصل الثامن أنّ التحديات التي واجهتها الحركات الإسلامية لدى صعودها السياسي إثر تفاجئها بالثورات، لم تكن "دينية"، بل سياسية تمثّلت بقلة الخبرة السياسية وضعف الكفاءة الإدارية، إلا أن التجارب صقلت فكرها وممارستها بعد ذلك بدرجة ملموسة. ويلخِّص العناني عِبَرَ التأثير الديني في الديمقراطية بأنّها عملية تأثير متبادل؛ إذ أصبحت الحركات الدينية داعمةً للديمقراطية في الدول التي اعتمدت التسامح تجاهها، مثل المغرب والأردن والكويت، واندمجت في النقاش حول الدساتير، وقدّمت تنازلات مهمة، ولم تقُم خلال توليها السلطة بتطبيق إجراءات "دينية" الطابع، كفرض قيود على ملابس النساء، أو منع المشروبات الكحولية، أو وقف العلاقات مع إسرائيل، في حين شجّع قمع الإسلاميين وإقصاؤهم تطرفَهم، كما في سورية وبدرجة أقل مصر. ويخلص إلى أن الاستقطاب بين الإسلاميين والعلمانيين الذي أفشل الديمقراطية كان سياسيًّا أكثر منه دينيًّا، بدليل انضمام سلفيين ومنشقّين عن الإخوان المسلمين إلى معسكر العلمانيين.
في الفصل التاسع، يُلقي مروان قبلان الضوء على فرضية تضاؤل فرص نجاح الانتقال الديمقراطي في سياقات التنافس الإقليمي والدولي وعدم الاستقرار الداخلي، ويخلص في بحثه الذي اعتمد على خمس دراسات حالة، إلى أنّ الاستقطاب الإقليمي يدفع القوى الكبرى إلى التدخل في المنطقة، والتسبب في حروب أهلية ممتدة ومدمّرة، كما في سورية وليبيا واليمن، وإلى قمع الاحتجاجات الشعبية قبل تحركها، كما في البحرين. ويستعرض قبلان سياقات التكامل التي دعمت الانتقال الديمقراطي في جنوب أوروبا وشرقها، بل حتى في تركيا، التي ساهمت رغبتها في عضوية الاتحاد الأوروبي في تقدُّم مسارات الإصلاح السياسي والدمقرطة. في المقابل، يذكر العناني أن غياب التنافس الإقليمي أو عدم حدّته أدى إلى جعل عملية الانتقال سلسة وناجحة، بخلاف المنطقة العربية، التي كان الأثر العكسي فيها هو الاتجاه الأكثر انتشارًا.
في الفصل العاشر، ينطلق عمر عاشور ودانا الكرد من نتائج أدبيات الانتقال الديمقراطي لتبيين الصلة بين الترسيخ الديمقراطي وإصلاح قطاع الأمن، بإنهاء حالات إفلات رجال الأمن من العقاب، وضمان سيطرة ديمقراطية فعالة على مؤسسات الجيش والشرطة والاستخبارات في أعقاب الربيع العربي وفق مستويات متغيّرات خمسة هي: الاستقطاب السياسي، ومقاومة قطاع الأمن، وقدرات الإصلاحيين، والدعم الإقليمي والدولي، والتسريح ونزع السلاح وإعادة الإدماج. وفي رأي الكاتبين أن المبادرات التونسية لإصلاح القطاع الأمني لا تزال متخلفة عند مقارنتها بالإنجازات خارج المنطقة، ويقيّمان العديد من هذا المبادرات بين عامَي 2011 و2013. وأكدا أن وحشية الشرطة حفّزت الثورات في المقام الأول، ولذلك يجب التعامل مع الفشل في دمقرطة قطاع الأمن بمزيد من الحزم. ويخلص الكرد وعاشور إلى أنّ قضية إصلاح القطاع الأمني برمّتها صارت بلا طائل مع تحرُّك قطاع الأمن والفاعلين العسكريين للسيطرة على الدولة، والعودة إلى الاستقطاب السياسي والتدخل الدولي والإقليمي الكثيف وتسييس الجيش وعسكرة السياسة في بلدان الربيع العربي.