رأى بيتر، وهو معلم ألمانية ظريف، عاش في سوريا زمنًا وخبر بعض طباع أهلها، ويجيد العربية، وله دروس على يوتيوب، أربع شمائل سورية أفزعته، كان أولها عندما وطئ الأرض السورية ودخل ميناء طائراتها، فوجد المواطنين السوريين يجهرون بالرشا! ويشهرون العملة النقدية وكأنها تذاكر مباريات أو مسرحيات، وهذه جريمة في ألمانيا، والرشوة اسمها "المال القذر" عند الألمان، وإن كان لا يعلم فهي جريمة قانونية وأخلاقية، وفي الدين يستوجب ذنب الرشوة اللعنة!
واستغرب بيتر أن شرطة المطار تجنبوا أن يأخذوا الرشوة منه، وهو الأجنبي الوافد، وأخذوها من مواطنيهم، لعلهم فعلوا ذلك حرصًا على سمعة سوريا في الخارج، أو كرم ضيافة، أو رشوة من شرطة المطار للأوروبي الظافر، ولعل بيتر لا يعرف أن سوريا وطنه الأول حسب قول شهير لعالم الآثار الفرنسي أندريه بارو الذي قال قولة شعارا تجاريا للمثقفين: لكل إنسان وطنان وطنه وسوريا. أما السوري فلم يعد له وطن.
عاتبه السوريون لأن شعبه يقدّر الحيوانات أكثر من الأولاد، وكان ردّه بأنهم يقدّرون الآلات أكثر من الإنسان، فالسيارة غالية الثمن في سوريا، وفيها فقراء كثيرون
وهو لا يعلم أن السوريين "دافعي الضرائب" والرشا لاجئون ووافدون في وطنهم، ويجهل أنّ الضريبة قد تكون روحه وكرامته. وأنكر في ملاحظته الثانية أحكام السوريين المسبقة على الغرباء، وللأوروبيين أحكام مسبقة أيضًا، مردّها الإعلام والطباع، فقد عاتبه السوريون لأن شعبه يقدّر الحيوانات أكثر من الأولاد، وكان ردّه بأنهم يقدّرون الآلات أكثر من الإنسان، فالسيارة غالية الثمن في سوريا، وفيها فقراء كثيرون. والنكير الثالث الذي أنكره عليهم هو: خرقهم للدور ورتل الانتظار.
والنكير الرابع: هو غياب النظافة العامة، فقد سقطت على رأسه نفاضة سجائر نيوتن من الأعلى في باب توما، فاكتشف قانون الجاذبية السورية وهي أن بيوت السوريين نظيفة من الداخل، ووسخة من الخارج، على النقيض من الألمان، فقد تجد بيتًا ألمانيًا وسخًا، لكن يندر أن تجد شارعًا قذرًا، وهو ما اتفق معه المستعرب الياباني وبواكي نوتوهارا من قبله في كتابه "العرب: وجهة نظر يابانية". وكان من أعجب ما رآه طفل يجرّ عصفورًا مقيدًا بخيط من قدمه كما تجرّ البقرة إلى المرعى!
أما بيتر الثاني، وهو ألماني مجهول وجار كاتب السطور، وليس له دروس على يوتيوب، فيرى رأيًا لم يذكره ابن خلدون ولا ألكسندر دوغين في العمران، ونشوء الدول وزوالها، وهو عدم حرص النظام السوري على حيواناته القومية.
ويرى أن ثمة ركنًا من أركان الدولة غير البر والبحر والعلم والنشيد والعملة هو الحيوان، وأنَّ الدول الكثيرة التي زارها تحرص على كائناتها الناطقة وكائناتها العجماء، مثال ذلك ما يراه المسافر على الطرق الإسبانية من تحذيرات يفهمها الأميّ، وهي رسومات بسيطة ورمزية على شاخصات في الطرق تحذر من الاصطدام بالثيران، وفي الطرق الأوروبية تحذيرات من الغزلان العابرة والخنازير البرية، وفي الهند، وهي دولة فقيرة تحذيرات من النمور والفيلة والقرود والكلاب، وفي أستراليا تنبيهات من صدم الإبل والكناغر الشاردة، وفي إيسلندا تنبيهات من الرنة والأيائل العابرة، وأنّ الحيوانات ثروة قومية، وأن المجاعة ضربت الصين بسبب حمق ما وتسي تونغ، الذي أباح قتل العصافير والجراد، فهلكت وهلكوا، وأنّ الدول العربية تكثر فيها الإبل، وتسبب حوادث على الطرق، فإن لم يكن رأفة بها فرفقًا بالبشر.
قال إنه لم يرَ تحذيرات طرقية في سوريا من الحيوانات العابرة!
ذكرت له أن الحيوانات كانت كثيرة في سوريا يومًا، وقد انقرضت بفعل التوسع السكاني والعمراني، أو بالصيد الجائر، إما خوفًا منها، أو طمعًا في أكلها، وأنه لم يعد في سوريا حيوانات سوى الهررة والكلاب التي لا تظهر سوى في الليل، وفي كل بيت سوري هرة منزلية، وقد تجد الحمائم وطيور الزينة، وإن حكومتنا الرشيدة كانت قبل الثورة مشغولة بالقضية المركزية فلسطين، فلسطين هي "البسوس" العربية. وإسرائيل هي الذئب التي تخوف بها الأنظمة العربية شعوبها.
لم يبق سوى هذين الحيوانين.
إن الحيوانات قوية الغريزة، وهي تستشعر بالمصائب والكوارث، وقد نزحت باكرًا منذ الحركة التصحيحية، فهاجرت ناجية بجلودها وريشها وحراشفها
لكن لم أشعر أني حججته، وذكر أنه رأى في الطريق إلى تدمر زواحف ثمينة من "الأغوانة" البرية مسحوقة تحت العجلات، وكاد أن يصطدم بحمار أهلي، وذكّرني بأن الحكومة الألمانية تغرم قتل الحيوانات والحشرات بغرامات كبيرة مثل؛ الخنافس، والسناجب، والنحل، والفراشات، وحيوانات الخلد، والحلزونات، والذئاب. وقد تبلغ غرامة قتل دبور خمسين ألف يورو، وأنه رأى الكلاب شاردة في الطرقات، وهي ثروة قومية ونفسية وجمالية، وأنّ الدولة يمكن أن تجني منها المال، سوى الحفاظ على البيئة، وإن ثمة سلسلة بيولوجية، لا تستوي الحياة إلا بها، فقلت إن الحيوانات قوية الغريزة، وهي تستشعر بالمصائب والكوارث، وقد نزحت باكرًا منذ الحركة التصحيحية، فهاجرت ناجية بجلودها وريشها وحراشفها، فقال قولًا لا مزاحة فيه، بأنه رأى صورًا للرئيس في كل الطرق التي سلكها في سوريا. وكان بعضها مطبوعًا على شاخصات مرورية بأسلوب الرش اللوني، بالأسود والأبيض. مثل اللوحات الطرقية.
وسأل: ما حيوانكم الوطني؟
قلت: صاحب الصورة حيواننا الوطني! هو الحيوان الوحيد الباقي من سلالته المنقرضة. وقد اصطدمنا به في الطريق إلى المستقبل، فكان ما ترى من قصاص وغرامات لم يغرمها طاغية لقومه وشعبه.