أقامت مؤسسة أوركسترا سيمفونية فايرفوكس، وهي مؤسسة ربحية أميركية حفلاً موسيقياً للفنان السوري الأميركي مالك جندلي بمركز الفنون في جامعة جورج ماسون حيث قدم خلال هذا الحفل عملين موسيقيين ضخمين أولهما العرض الأول لكونشرتو الكلارينت والأوركسترا مع جرعة بطولية من موسيقا بيتهوفن.
ومن بين الأمور المميزة التي تتصل بهذه المؤسسة التزامها بمبدأ التنوع، إذ يبدو أمر الابتعاد عن الأشياء الواضحة الجلية المبدأ الذي يلتزم به قائد الأوركسترا كريستوفر زيمرمان الذي يعمل على خلق حالة توازن بكل ثقة وفن عبر منح الجمهور ما يريده مع إظهار ما قد يطلبه ويستحبه.
كانت الحفلة الموسيقية التي أقيمت ليلة يوم السبت بمركز جامعة جورج ماسون للفنون تمثل حالة التوازن الدقيقة هذه، بعد الحفل الموسيقي استوقفتنا إحدى من حضرن لتقول: "لدى ألمانيا بيتهوفن، ولدى سوريا مالك". وتمثل تلك المرأة تلك النسبة الصحية من المستمعين السوريين بين الحضور الذين أتوا ليشهدوا على إبداع جندلي الفريد من نوعه ضمن الأطر الكلاسيكية الأوروبية وتفاصيل الهندسة السورية في مجال الموسيقى.
وجندلي، 51 عاماً، مؤلف موسيقي غزير الإنتاج تشتمل سيمفونياته وكونشيرتاته على مقامات عربية يدخلها ضمن تلك البنى وفق مزيج يقاوم حالة الانصهار التام، فيخرج بشيء يشبه تصوير المرء لذاته حتى عندما تركز العدسة بؤرتها على الطرف الخارجي، ولهذا وصفت مارين ألسوب جندلي بأنه من بين أفخم الشعراء والمؤلفين الموسيقيين في زماننا بيد أنها لم تذكر كلمة (شعراء) هنا عبثاً.
إذ قبل بدء الأوركسترا بثلاثة حركات مقتبسة من السيمفونية السادسة لجندلي التي تحمل اسم: "وردة الصحراء"، خرج المؤلف الموسيقي نفسه ليقف على خشبة المسرح حاملاً إلهامه بيده: وردة صحراء حجمها بحجم كف اليد، صنعت من طبقات الجبس والباريت والرمل التي رصت بعناية، وتركت ليشكلها الهواء والماء والضغط لتبدو كوردة يانعة في كامل أوجها.
تتبنى سيمفونية جندلي نهجاً مماثلاً للوردة، إذ تعتمد على ترتيب طبقات موسيقية تتعارض ألوانها مع بعضها بطريقة مدهشة ومغرية حقاً، إذ تبدأ حركة "مديح" بإيقاع ثابت يصدره قسم الإيقاع الذي يدعم العمل كله، أما صوت الوتر المنخفض والبوق الذي يبهج العمل فيتخلل صوت الإيقاع بوساطة عزف سريع لآلة الزيلوفون، وعلى الرغم من أن هذا المزيج الموسيقي يبدو محبباً، إلا أن شيئاً من التوتر يشوبه.
أما حركة "العرضة" الموجودة في السيمفونية الخامسة فتتسم بجمال الصنعة، إذ يتخلل صوت الوتر فيها عزف منفرد لآلتي الترومبون والكمان، مع تفجر للقوة لا يمكن للمرء أن يتوقعه. في حين يأتي عزف المزامير اللعوب والآلات النفخية والقرع على الآلة الخشبية ليضفي مسحة طفولية تناسب هذا العمل الذي يحمل اسم "احتفال". أما مماحكات البوق فتلعب لعبة شد الحبل بين الآلات النحاسية والوترية.
وهذا التوتر المتصاعد ينتهي بموسيقى تحث الناس على الرقص بطريقة شعبية لكنها على بساطتها بقيت راقية واحتفالية، وهذا ما يدفع الجمهور لمتابعة العرض حتى آخره.
بعد هذه الثلاثية المختارة، عزف أنطوني ماكجيل بشكل منفرد على الكلارينيت الرئيسي للفرقة الفلهارمونية بنيويورك كونشيرتو الكلارينيت والأوركسترا التي ألفها جندلي للمرة الأولى.
ثمة دليل آخر غير موسيقا جندلي بحد ذاتها يثبت لنا بأن هذا المؤلف موهوب بشكل فريد، ويتجلى ذلك بقدرته على الاستفادة من إمكانيات ماكجيل، وذلك لأن الحركات الثلاث من الكونشيرتو تشتمل على عزف ماكجيل ووقفاته، بما يترك مجالاً واسعاً ليعبر بشكل جلي وموح بطرق عديدة، ثم إن الافتتاحية تعتمد على مهارته الفريدة التي أظهرها ماكجيل من خلال العزف على آلته النفخية بدقة مع عزف المزامير وأوتار القيثارة الخفية. فيما أسهمت الصنوج الناعمة والأوتار اللاهثة والأبواق التي تخفت فجأة باستحضار الغنى الذي تحمله أعمال الموسيقي الروسي سترافينسكي وذلك عندما يصدر ماكجيل صليلاً منخفضاً ويمرر أصابعه بخطوط رشيقة ليعزف لحن اللازمة بمهارة فائقة.
ومن خلال الموسيقى الهادئة ذات المزاج المتقلب التي تأتي بعد ذلك، نرى كيف يمرر ماكجيل أصابعه ليعود إلى آلته النفخية مع عزف الكمان والفيولا. بيد أن جندلي هنا لم يجبر ماكجيل على إخراج مهارته الفنية للعلن، بل فضل عوضاً عن ذلك أن يتعامل مع ذلك معاملة سينمائية تسمح بظهور الخطوط الحية للشخصية الرئيسية، وهكذا تأتي بداية الخاتمة متفرقة وحادة، لكنها مترعة بصوت الوتر والإيقاع.
ينقلنا تقاطع العزف السريع مع صوت الآلات النفخية الرقيق إلى المقطع الأخير الذي يعزفه ماكجيل، وهو عبارة عن مناجاة حماسية للنفس تتحرك بسهولة وخفة عبر صوت يتخلله عزف يشبه الجاز بكل بساطته، ثم يشتد صوت الآلات الوترية ليصل إلى ذروته الصارخة، فتحس معه بأن شيئاً قد بدأ الآن.
بعد تلك الفسحة عاد الجميع ليستمعوا إلى بيتهوفن الذي ألف سيمفونيته الثالثة على شرف نابليون لكن ما لبث الأخير أن تحول إلى شخصية بغيضة، وقد نبه بيتهوفن نفسه لضرورة عزف هذه السيمفونية عند بداية الحفل الموسيقي لا بنهايته، نظراً لطولها الجامح، لأنها إن عزفت في وقت متأخر فلن يكون لها وقع مؤثر على السامع الذي أتعبته المقاطع التي سمعها قبلها، ولهذا عزفت هذه السيمفونية في البداية حسب رغبة صاحبها، لأن بطولتها تحمل عبء النهايات.
ثم إنه من ميزات عزف الاوركسترا لموسيقى حديثة هو أننا بوسعنا أن نقارنها بنفسها هناك حيث تعزف، وفي تلك الأثناء يمكن مقارنة السيمفونية الثالثة لبيتهوفن بأي سيمفونية ثالثة سمعناها، ولعل هذه السيمفونية كانت عبئاً ثقيلاً على الفرقة التي عزفتها يوم السبت الماضي، بيد أن قائد الأوركسترا بث طاقة وحيوية آسرة خلال العزف.
المصدر: The Washington Post