في صيف العام 1990 تحلقنا ذات مساء أمام شاشة تلفاز صغيرة، بل صغيرة جداً بمقاييس شاشات اليوم، كانت أمسية رطبة، تخللتها نسمات شمالية، المناسبة المباراة النهائية لكأس العالم المقامة في إيطاليا منقولة عبر المحطة السورية الأرضية، لم أكن مشجعا مكتملاً بعد لكنني أحب كرة القدم كما جميع الفتية حيث لا "كمبيوتر جميز". طرفا المباراة الأرجنتين وألمانيا، مجدداً لم أكن مشجعاً لأحد الفريقين بعينه لكنني عملا بالقاعدة الذهبية لوالدي "نحن نشجع الفقراء الضعفاء"، وبالتالي أشجع الأرجنتين وما بالك إن كانت تلك أرجنتين -دييغو أرماندو مارادونا- ذاك الساحر الذي كنا نعرفه ونردد اسمه رغم أننا أصغر من أن نعرف حقاً من هو، هو لاعب كرة قدم بارع مملوء بالعنفوان بمسمى الكبار وقتئذ كان مناضلا يحب الفوز ويحب بلاده، كان فقيراً مثلنا. كنا فقراء، ومن بلاد مستضعفة أيضا كنا مستضعفين.
لم أفرح يومئذ بفوز مارادونا بل تسمرت أمام الشاشة أراقبه باكيا يدور بالملعب مطرقاً بعد أن انتهت المباراة والتقطت بحسرة دموعه التي ذرفها، حملتها بيدي وبكيت معه بحرقة كفتى ساذجاً يخسر، تعرّفت إلى مارادونا.
لم أفرح يومئذ بفوز مارادونا بل تسمرت أمام الشاشة أراقبه باكيا يدور بالملعب مطرقاً بعد أن انتهت المباراة والتقطت بحسرة دموعه التي ذرفها، حملتها بيدي وبكيت معه بحرقة كفتى ساذجاً يخسر، تعرّفت إلى مارادونا.
كانت بداية لأعرف القصة الأشهر وقتئذ، والتي بدأت من قول أحد الحاضرين "لقد انتقم منه القدر"، عندما احتسب الحكم لألمانيا ضربة جزاء في أواخر الشوط الثاني من عمر المباراة، أين الانتقام؟ لقد كان انتقاماً من هدفه الذي أوصل الأرجنتين إلى حمل كأس العالم في الدورة السابقة (المكسيك 1986). الهدف الذي استخدم به يده ضد إنكلترا وفاز وتأهل للمباراة النهائية ليفوز على ألمانيا ذاتها، عنونت صحف الأرجنتين في الصباح التالي "إنها يد الله" قيل إنه من قال تلك العبارة، لكن هل حقا انتصرت الأرجنتين في تلك الدورة فقط بسبب غش ولدها الذهبي، يُجمع كل من عاصر ذاك الفريق أنه كان لا بد أن يرفع كأس العالم، ولا بد ليد مارادونا ذاتها أن تلامس الكأس وترفعه عالياً، في ذات المباراة ضد الإنكليز سجل الكابتن دييغو صاحب الرقم 10 هدفاً ثانياً بعدما تجاوز سبعة من لاعبي منتخب إنجلترا والحارس ولو كانت بطريقه ساعة بيج بين ذاتها لتجاوزها، وأودع الكرة في الشباك، وتم اختيار الهدف عام 2000 هدف القرن في موقع الاتحاد الدولي لكرة القدم.
بعد حسرة مونديال 90 عاد دييغو إلى ناديه الذي صنع له المجد بحق، نابولي الإيطالي لكن لم ينتظره ما كان ينتظره طيلة سبعة أعوام فالشباب القادم من بلاد الفضة صانع ذهب نابولي أقصى إيطاليا الأم من كأس العالم في ملعب سان باولو الملعب الذي صنع فيه أفراح النادي الجنوبي نادي الفقراء، وكنا نحن فقراء ونشجع نابولي. لم يكتف ماردونا بإقصاء إيطاليا بل بالغ باحتفاله المستفز. بعدها تبادل الشتائم مع الإيطاليين في غير مناسبة ولم نكن نحتاج لقارئ شفاه لنعرف ذلك كانت كرة القدم بسيطة وإنسانية ليست حرفة واحترافاً وصناعة ومالاً واحتكاراً فحسب بل مزيجٌ من شغف وشجاعة وتضحيات ودموع وفرح ونصر.. وشتائم، كانت لعبة الفقراء وكنا فقراء.
مارادونا صانع الأفراح تلك الشعلة المتمردة، كان يريد أن يصبح أكبر من الملعب لكنه أخطأ الطريق، ضل وشذ ودخل متاهة المخدرات والمافيات ودروب الخراب، وسقط منتصف التسعينيات لكن نجمه لم يأفل كرمز لكرة القدم ونجم ندر مثيله إن لم نقل إنه لا مثيل له، صاحب الضجيج الأعلى دائماً والمرور الصاخب، فلم تخل أي تجربة من تجاربه في حياته من الصخب الذي لازمه طيلة مسيرته في ملاعب كرة القدم، وخارجها وفي شتى البلدان التي مر عليها. كل من تابع أخباره بعد الملاعب لامه وكره بعض سلوكه، لكن أحدا لم يكرهه وكأن للرجل حبا القلوب مزروعا لا ينزع، ذاك الفقير الشجاع المقاتل المتمرد الساخر الذي احتج على هيمنة الغرب وأميركا على قارته الوديعة، عرف عنه الدعم لقضايا المضطهدين في العالم، ولم يفوت فرصة ليعلن أنه أيضاً ثائر متمرد كاره لسيطرة الدول الكبرى، التي تحتكر مقدرات الشعوب، لتصبح مناصرته للفقراء والقضايا الإنسانية مدعاة لحبه فضلاً عن نبوغه في الملاعب، شرس حاد فرغم انتقاله المدوي إلى عالم أغنياء اللعبة وأباطرتها، إلى نادي برشلونة عام 1982 فإنه لم يبتلع الإهانة في إسبانيا ولم يسكته المال، فغادرها بعد عام إثر عراك بالأيدي خاضه ضد لاعبي نادي بلباو على أرضية سانتياجو بيرنابيو في مدريد في نهائي كأس الملك، في حادثة خلفت 60 مصاباً وفوضى عارمة، لأنه تلقى شتائم وألفاظا عنصرية من الجماهير على المدرجات.
لبس الكوفية الفلسطينية وأعلن دعمه للقضية وقال "فلسطين في قلبي"، نقش على ذراعه صورة تشي جيفارا ذات الصورة التي كنا نحتفظ بها ونعلقها في مكتباتنا البسيطة ونتبادلها. ربما كنا صغاراً لكننا أيضا نحب الحرية والكرامة ونسعى إليهما.
لبس الكوفية الفلسطينية وأعلن دعمه للقضية وقال "فلسطين في قلبي"، نقش على ذراعه صورة تشي جيفارا ذات الصورة التي كنا نحتفظ بها ونعلقها في مكتباتنا البسيطة ونتبادلها. ربما كنا صغاراً لكننا أيضا نحب الحرية والكرامة ونسعى إليهما.
رحل الرجل ولرحيله ضجيج عال كما مسيرته، كان أكثر من مجرد لاعب كرة قدم، لم تتسع له الملاعب فصار من الأساطير وسيبقى ذكره طويلاً بمحاسنه ومثالبه، إنها إرادة الله.. مارادونا يغادر ملعب الحياة.