واحدة من كبرى المشكلات التي ابتُلي بها السوريون والتي كان لها دور كبير في هزيمة الثورة ووصول الحال والوضع السوري إلى ما هو عليه الآن من الانغلاق وانسداد آفاق الحلول واستعصاء استعادة أواصر المجتمع السوري الذي تداعى وانهار وسقط مع سقوط عقد آلف طويلًا بين مكونات السوريين؛ هي مشكلة عجز السوريين عن الالتفاف حول مشروع وطني موحّد يمكنه أن يحمل بذرة إنقاذ ما لسوريا المجتمع والدولة.
وعجزهم عن التآلف ومنح الثقة لبعضهم البعض للقيام بمشروع كهذا، وعجزهم عن قبول الاختلافات الثقافية التي تميّز مكونات المجتمع السوري، والتي عادةً ما تكون، في المجتمعات المنجزة والمعافاة، اختلافات إيجابية تشكّل بصمات أولى لإنجاز حضاري يسهم في رفد الحضارة البشرية القائمة أساسًا على التنوع والاختلاف.
لم يستطع السوريون منذ تشكيل دولة سوريا المعترف بها حاليًّا من إنجاز مشروع وطني بحامل اجتماعي متين على غرار مصر ومشروعها القومي الوطني الذي نهض به جمال عبد الناصر وثورة يوليو؛ لم تستطع ثورة آذار المستنسخة من ثورة يوليو النهوض بمشروع كبير كهذا، ليس فقط لأن مصر أكبر حجمًا بكثير من سوريا بل أيضًا لأن المجتمع المصري مجتمع قديم وعريق وشديد التجانس على عكس المجتمع السوري الذي لم تُعطَ له فرصة حقيقية ولا وقت كافٍ ليتشكل وفق أسس ومعطيات يمكنها أن تسند أي مشروع، وأيضًا لأن سوريا منذ خروجها من مظلة الوجود العثماني وقعت تحت سيطرة الاحتلال الفرنسي الذي أعقبه سلسلة من انقلابات عسكرية منعت الأحزاب التي كان السوريون يحاولون تأسيسها أو الانضمام إليها من أن تستوعب اختلافات وتنوع المجتمع السوري وتضع له أسسًا استراتيجية للنهوض والتطور. ثم جاء حزب البعث بثورة الثامن من آذار التي قام بها ضباط سوريون مقتفين أثر حركة الضباط الأحرار في مصر، متبعين نفس خطواتهم في السيطرة على الحكم ولكن تحت يافطة حزب شمولي أصبح هو الحزب الحاكم الذي أنتج الاستبداد الأسدي. هذا السياق الذي حدث في سوريا لم يراعِ حداثة تأسيس مجتمع سوري داخل دولة مستقلة، ولم يراعِ الاختلافات والتنوع المذهبي والإثني في المجتمع واختلاف الثقافات بين هذه المكونات.
كانت الثورة السورية في عام 2011 هي الفرصة الوحيدة للسوريين للالتفاف حول مشروع وطني ونهضوي وحداثي يمكن من خلاله إعادة بناء المجتمع السوري على أسس متينة وصلبة.
تشكّل المجتمع في سوريا تحت قبضة الأمن التي كانت تزداد قوة وبطشًا يومًا بعد يوم، دون أن يكون هناك اشتغال مدني حقيقي على صهر كل هذه الاختلافات في بوتقة الوطن أو المواطنة، ما حدث هو العكس تمامًا، تم تجاهل المواطنة والعمل على تعزيز الهويات الصغيرة تحت غطاء الاستقرار الذي لم يكن أحد يدرك مقدار الخراب الكامن تحته؛ والذي كان نتيجة طبيعية لعدم تشكّل المجتمع عبر آليات طبيعية ومفاصل يجب أن يمر بها أي مجتمع ناشئ.
ورغم أن البعض قد يقول إن سوريا قديمة جدًا ومجتمعها قديم، لكن الحديث هنا ليس عن سوريا الكبرى التي عبرت فيها حضارات متعددة ولكن عن دولة سوريا السياسية التي تشكّلت بعد اتفاقية سايكس بيكو، أما ما كان تحت مظلة سوريا الكبرى فهي تجمعات بشرية تعيش تحت مسمى مذهبي أو عرقي أو طبقي أو مناطقي، كان الخوف من العثمانيين هو المشترك الوحيد بينها تقريبًا.
كانت الثورة السورية في عام 2011 هي الفرصة الوحيدة للسوريين للالتفاف حول مشروع وطني ونهضوي وحداثي يمكن من خلاله إعادة بناء المجتمع السوري على أسس متينة وصلبة، لكن الانقسام الذي حدث إثر الثورة شكّل طعنة في جسد هذا الطموح؛ حيث بدأ خراب المجتمع ينكشف عن آخره: خوف فئات المجتمع بعضها من بعض وظهور مصطلحات مثل "مكونات وطوائف" لتدل على الانقسام الهوياتي في المجتمع، وبدأت الأحقاد الطائفية التي كانت تتشكل في الخفاء تظهر علنًا وبشكل واضح، أما الخطاب السياسي الموالي والمعارض فقد كان محمولًا في حالتيه على الافتئات والتحزب المتطرف ورفض الآخر المختلف من دون ترك أي مساحة للالتقاء في المنتصف لتجنيب البلاد مصيرًا أسود كالذي لاقته.
لم يقدم أي من الطرفين خطابًا وطنيًّا جامعًا مما زاد في حالة الانقسام التي وصلت للعائلة الواحدة، وهو في الحقيقة لم يحدث في أي بلد عربي آخر من بلاد الربيع العربي التي شهدت نفس الانقسامات وبعضها شهد حروبًا طاحنة من دون أن تحصل فيها هذه القطيعة الكبرى كالتي حصلت في سوريا.
والمؤسف أن هذه الخلافات ظهرت باكرًا لدى طرف الثورة المعارض، باكرًا جدًّا أي منذ أشهر الثورة الأولى، وكان الانقسام حادًّا مما عطّل الوصول إلى خطاب موحد موجّه إلى المجتمع الدولي، كما عطّل وجود بدائل عن النظام تحظى بإجماع السوريين من جهة ورضا المجتمع الدولي من جهة ثانية. وسادت في الوسط المعارض نظريات التخوين والعمالة لهذا الطرف أو ذاك، كانت وسائل التواصل الاجتماعي خلالها هي المنبر لمثل هذا الخطاب التخويني. وللأسف كان الصوت الديموقراطي الوطني (العلماني) هو الأضعف بين الأصوات التي تتبادل الاتهامات، والأكثر عرضة للطعنات، حتى لم يبقَ من أصحابه في معترك السياسة إلا قلة قليلة ما تزال حتى اللحظة تتعرض للتخوين والشتائم من قبل رهط من السوريين لم يعد يربطهم بالثورة إلا هذه الاتهامات التي يلقونها على وسائل التواصل، كما لو أن هذه الاتهامات تمنحهم صك غفران من هزيمة الثورة.
المطلوب هو البناء على هذه الاختلافات بوصفها قاعدة لبنيان قوي قادر على حمل سوريا بكل أزماتها.
وللأسف أن عقدًا ونيف من الزمن لم يستطع أن يجعل السوريين يدركون أن هذه الانقسامات لن تؤدي إلا إلى مزيد من الخراب، ليس المطلوب هنا الرأي الموحد، ولا العودة إلى الصوت الواحد الذي لم يجلب سوى الخراب العميم لنا، لكن المطلوب هو اجتماع هذه الأصوات والتيارات المختلفة والمتنوعة واتفاقها على صيغة مشتركة قد تنقذ ما يمكن إنقاذه. أو على الأقل عدم توجيه الاتهامات المتلاحقة التي يوجهها السوريون ضد كل من يفكر منهم بأي وسيلة للاجتماع أو الالتقاء أو التفاهم أو صياغة مشروع جديد أو التفاهم حول صيغ جديدة بعد أن أثبتت الصيغ القديمة عجزها وفشلها عن إحداث أي اختراق في الوضع السوري المصمت. المطلوب هو احترام هذه الاختلافات في الرؤية والتصور والاستراتيجية، والنظر إليها بوصفها نقاط قوة تسهم في تعزيز العمل على تخليص سوريا مما هي فيه ومن أجل خلاص السوريين من الكارثة التي لحقت بهم. المطلوب هو البناء على هذه الاختلافات بوصفها قاعدة لبنيان قوي قادر على حمل سوريا بكل أزماتها. أما نصب المشانق بعضنا لبعض وتكسير كل من يحاول التقدم خطوة واحدة نحو إيجاد حل ما فهو ليس تطهّرًا ثوريًّا كما يظن، بل هو مساهمة جديدة في الأذى السوري المستمر منذ زمن طويل، وهو حفر حفرة جديدة في درب الخلاص الذي يحتاج لترميم وردم حفره الكثيرة التي لم يُحسن السوريون التعامل مع وجودها ولا مع تزايدها سنة وراء أخرى نتيجة انتمائهم إلى هويات ضيقة وصغيرة ونبذهم لهوية المواطنة التي لا يمكن لأي مجتمع أن ينجو من دونها.