رحلَ هنري كيسنجر عن الدّنيا. لكنّ أعماله وآثارها لم ترحل معه، بل بقيت. تركَ وزير الخارجيّة الأميركيّة الأسبَق آثاراً له راكمها على مدى نصف قرنٍ من الزّمن طافت دول العالم من أقصاه إلى أقصاه.
لكنّ لسوريا "مكانةً خاصّة" في ترِكَة كيسنجر السّياسيّة. لعِبَ "الدّكتور هنري" دوراً رئيسيّاً في تثبيت حُكمِ آل الأسد في سوريا. وله في هذا 3 منعطفات تاريخيّة، منذ أيّام حافظ الأسد، ساهمَت بوصول سوريا إلى ما هي عليه اليوم.
أولى هذه المنعطفات كانت اتفاقيّة "فصل القوّات بين سوريا وإسرائيل" بعد حرب تشرين أكتوبر 1973، والتي وُقِّعَت في شهر أيّار 1974.
هذه الاتفاقيّة كانت فرصة لنسجِ "العلاقة الحميمة" بين الثّنائي كيسنجر – الأسد الأب.
يسردُ الصّحفي البريطانيّ باتريك سيل في كتابه "حافظ الأسد والصّراع على الشّرق الأوسط" تطوّرها. ووصلَت إلى حدّ أنّهما قضيا معاً في الفترة الممتدة من 29 نيسان إلى 29 أيار 1974 نحو 130 ساعة. وربّما لم يحظَ بعض مسؤولي نظام الأسد الأب بهذا المجموع من الجلسات معه.
سجّلَ الوزير الأميركيّ، بحسب سيل، 26 حالة وصول ومغادرة إلى مطار دمشق، وأوّلَ سيل طبيعة العلاقة بينهما بالآتي: "الأسد كان متشوّقاً لتعلم الكثير عن العالم، ووجد كيسنجر معلّماً خصوصياً جاهزاً".
بالطّبع لم يكُن الأسد يحتاج إلى هذه الدّروس الخصوصيّة، على قدرِ ما كان يُريدُ من ضيفه الأميركيّ تثبيت حُكمه. فكسينجر كان من هواة قلبِ الأنظمة المُنتخبة ديمقراطيّاً، وبطبيعة الحال وجَدَ بالأسد الأب أكثر من ضالّته. فالأخير وصلَ بانقلابٍ على الانقلابِ، ولاحقَ رفاقه فرداً فرداً حتّى استفرَدَ بالسّلطة.
عرِفَ الأسدُ كيفُ يُرضي الوزير المُتعطّشِ لضمان أمنِ إسرائيل. وعرفَ كيسنجر أنّ حافظ الأسد لا يريد توقيع "اتّفاق سلام" في الأفق المنظور لأسبابه الخاصة، لكنّه يريد السّلام ذاته. فكانت اتفاقيّة "فصل القوّات"، والتي تصفُ نفسها في فقرتها الثّانية: "الاتفاقية ليست اتفاقية سلام، بل هي خطوة نحو سلام عادل ودائم".
ضمنت الاتفاقية جبهة الجولان على مدى 4 عقود من الزّمن. حتّى إنّ حدود إسرائيل مع مصر، التي وقّعت اتفاق سلام، شهِدَت سقوط قتلى إسرائيليين أكثر ممّا هو حال حدودها التي يضمنها آل الأسد
فكانَت الاتفاقيّة بمنزلة تبادل خدمات: يضمنُ الأسد حدوده مع إسرائيل، ويضمنُ له كيسنجر بقاءه في السّلطة. وهذا ما حصلَ. إذ ضمنت الاتفاقية جبهة الجولان على مدى 4 عقودٍ من الزّمن. حتّى إنّ حدود إسرائيل مع مصر، التي وقّعت اتفاق سلام، شهِدَت سقوط قتلى إسرائيليين أكثر ممّا هو حال حدودها التي يضمنها آل الأسد.
ثاني هذه المُنعطفات كانَ تسليم الأسد الأب لبنان في نيسان 1976، وقد دفعَ كيسنجر هذه "العطيّة" سلفاً قبل شهريْن من توقيع الأسد اتفاقيّة فصل الجولان. اعتبرَ الوزير الأميركيّ هذه "العطيّة" توازناً مُقابل السّلام، إذ بحسب وصفه "لا سلام من دون توازن". لكنّ التّوازن الذي عرفه كُلٌّ من حافظ الأسد وهنري كيسنجر، هو أن يتلهّى الأسد بلبنان واللبنانيين، وينسى في المُقابل إسرائيل.
في لبنان قدّمَ النّظام السّوريّ الكثير لكسينجر ذي النّزعة الصّهيونيّة. كانَت المُقاومة الفلسطينيّة في مُقدّمة أهداف الأسد، وصارَت تهمة "العرفاتيّ"، أي تأييد ياسر عرفات، أشدّ وأخطر من أيّ تهمةٍ أخرى في أقبية نظام الأسد. ويُضاف إلى ذلك أنّ الأسد لم يُعارض بشكلٍ جدّيّ مُضيّ الرّئيس المصريّ أنور السّادات بتوقيع اتفاقيّة "كامب ديفيد" مع إسرائيل، واكتفى بالمُعارضة الكلاميّة والتلفزيونيّة.
ثالثُ هذه المنعطفات كانت أنّ النّظام السّوريّ يضمنُ لكيسنجر مشروعه في الشّرق الأوسط. فوزير الخارجيّة الأميركيّة الأسبق كانَ من أشدّ المُتحمّسين إلى فكرة تقسيم الدّول العربيّة إلى "دويلات طائفيّة". وبلا شكّ، كانَ نظام الأسد "الأقلويّ" أهمّ أركان هذا المشروع.
فلو كانَ النّظام القائم في سوريا ديمقراطيّا - مدنيّا، يضمن للأغلبيّة الحُكم، لكانَ كيسنجر هندَس إسقاطه. لكنّه وجَد طلبه قائماً وجاهزاً، فباشرَ بدعمه وتثبيته بشتّى الوسائل. وهذا يُفسّر أيضاً العلاقة الحميمة بين الجانبيْن. فكلاهما من الأقليّات في المنطقة، والعالم.
وبعد اندلاع شرارة الحرب السّوريّة ضدّ الأسد الابن، خرجَ كيسنجر مُنظّراً في ندوةٍ نظّمتها "مدرسة جيرالد فورد للسّياسة العامّة" في 2013. تحدّثَ صديق الأسد الأب عن 3 نتائج ممكنة للأحداث في سوريا:
- إمكانيّة "انتصار الأسد"
- انتصار المُعارضة السّنيّة
- قبول مختلف القوميات السّوريّة بالتعايش، ولكن في مناطق مستقلة ذاتيًا
وفي سياق حديثه في المُحاضرة عينها اعتبَرَ أنّ "الوحدة الوطنية السورية مُصطنعة" ووصفَ الثّورة بأنّها "نزاع إثنيّ وطائفيّ".
ماتَ هنري كيسنجر ورأى أنّ مشروعه قد مضى قُدُماً، وأنّ كلّ ما رسمه وخطّطَ له يسير على قدمٍ وساق. تقسّمَت سوريا وتشظّت. وبقيَ بشّار الأسد يحكم أنقاضاً
كلامُ كيسنجر، يُفسّرُ أهدافه من العلاقة الحميمة مع الأسد الأب. ويُفسّر لماذا قدّم "العطايا" لضمان بقائه. فهو يعرفُ سلفاً نتيجة ما فعلَ، وأنّ بقاء آل الأسد في سوريا يعني خدمة مشروعه التّقسيميّ، الذي أطلّ برأسه في السّاحل وشرقي سوريا، وتعلو أصوات في مناطق أخرى لتكونَ لوحةَ كيسنجر مُكتملة الأركان على الجغرافيا السّوريّة.
ماتَ هنري كيسنجر ورأى أنّ مشروعه قد مضى قُدُماً، وأنّ كلّ ما رسمه وخطّطَ له يسير على قدمٍ وساق. تقسّمَت سوريا وتشظّت. وبقيَ بشّار الأسد يحكم أنقاضاً. فهل يفتح الأخير بيت عزاءٍ في قصر المُهاجرين ليتقبّل التعازي بوفاة "صديق الوالد" ومُثبّتُ كُرسيّه؟