تستمر المظاهرات في شمال سوريا وبزخم متصاعد ومطالب واضحة ومحددة تنبئ عن حراك منظم، له مسار وأهداف يريد الوصول إليها، مظاهرات جاءت بعد سنوات من السكوت عن انتهاكات وتجاوزات ارتكبها الجولاني ومجموعة من المقربين منه، والذي يسيطر معهم على معظم مفاصل المناطق الخاضعة لسيطرته والممتدة على عموم محافظ إدلب وأجزاء من أرياف حلب واللاذقية وحماة، وبعد توقف المعارك الكبرى مع النظام والميليشيات الإيرانية صار لدى الجولاني وزمرته قوة اقتصادية لا يستهان بها بعد إحكام قبضتهم على معظم الموارد المالية التي وفرتها الظروف، وباتوا يسيطرون على معظم الدورة الاقتصادية وحركة البضائع والأموال في المنطقة، هذه الوفرة المالية أتاحت لهم التمدد خارج مناطق سيطرتهم وهو ما نجح به بشكل جزئي عبر شراء ولاءات في مناطق سيطرة الجيش الوطني في أرياف حلب الشمالية والشرقية، لكن محاولات التمدد هذه تم القضاء عليها بشكل تدريجي، وبعد قرار الحكومة المؤقتة فتح معابر نظامية لمرور البضائع والأفراد بين مناطق سيطرة الجولاني ومناطق حكمها يمكن أن ننعي بشكل ناجز هذا المشروع الذي كان يريد عبره الجولاني السيطرة الكاملة على عموم المناطق المحررة شمال سوريا، وتقديم نفسه للمجتمع الدولي وخصوصا للدول الفاعلة بالملف السوري كسلطة أمر واقع يجب عليهم التعاون والتعامل معها.
كان الجولاني يراقب هذه التيارات ويدير الخلافات فيما بينها بشكل يبقيه على رأس الهرم لكن المشكلات تفاقمت ووصلت للذروة نهاية العام الماضي، بعد أن قام جهاز الأمن التابع للجولاني باعتقال عدد كبير من قادة وعناصر تلك التيارات
الحال التي وصلت إليه جماعة الجولاني ليست وليدة اليوم، بل جاءت بعد تراكم عدة مشكلات وبروز عوامل ساهمت في انكشاف قوة هذه الجماعة/ المجموعة، وعند أول اختبار حقيقي ظهرت هشاشتها وضعف البيت الداخلي، وأعتقد أن أهم عامل ساهم في تفكك الجماعة هذه يتمثل في بروز العامل المناطقي على حساب العامل الجهادي العقدي الذي كان يمثل أكبر رابط يجمع النواة الصلبة للجماعة، عامل مناطقي ساهم في بروز تيارات متنافسة داخل هيئة الجولاني، وهذه التيارات ينتمي كل منها لمنطقة جغرافية أي ما يجمعها بالدرجة الأولى انتماؤها المناطقي قبل الجهادي، وصار لكل تيار قوة عسكرية مدعومة بحاضنة اجتماعية ونفوذ جهوي وقوة اقتصادية أيضاً.
كان الجولاني يراقب هذه التيارات ويدير الخلافات فيما بينها بشكل يبقيه على رأس الهرم لكن المشكلات تفاقمت ووصلت للذروة نهاية العام الماضي، بعد أن قام جهاز الأمن التابع للجولاني باعتقال عدد كبير من قادة وعناصر تلك التيارات بتهمة العمالة، وهي تهمة من السهل إسباغها على كل خصم أو منافس محتمل، عملية الاعتقال هذه طالت قياديين من الصف الأول أبرزهم أبو ماريا القحطاني، وكادت أن تصل لجهاد عيسى الشيخ لكنه هرب إلى ريف حلب الشمالي قبل أن يصبح في زنازين الجولاني. عملية الاعتقال هذه شملت عددا كبيرا من منتسبي الجماعة وتعرّض كل الذي اعتقلوا لتعذيب شديد كشف عن وحشية جهاز الأمن التابع للجولاني، وإن كان التعذيب الوحشي طال منتسبي الجماعة وقياداتها بهذا الشكل فيمكننا تخيل كيف كانوا يتعاملون مع المدنيين طيلة السنوات الماضية؟
خلال عملية استجواب المشتبه بهم كانت الأدوات الإعلامية التابعة للجولاني تواصل بث الإشاعات والأخبار عن كشف خلية كبيرة هدفها تسليم المحرر للنظام وروسيا، وبعد براءة معظم من شُهِر بهم وقع الجولاني بمأزق كبير، فحاول تداركه بعقد لقاءت مع بعض القادة المفرج عنهم بعد ثبوت براءتهم، وقام ببعض التصريحات التي تتحدث عما سماها تجاوزات وأخطاء رافقت عملية التحقيق تلك.
كان انكشاف توحش جهاز الأمن العام خلال ملف العملاء وما تبعه بمثابة القشة التي ستقصم ظهر البعير
هذا الواقع الحالي يمثل أكبر تهديد وجودي للجولاني وجماعته منذ القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان يخوض معه الجولاني حربا وجودية، لأن كل طرف كان يسعى لاحتكار التمثيل الجهادي في سوريا. وأهمية هذا التهديد تأتي لأن عوامله داخلية أي إن الجماعة بدأت تأكل نفسها ودخلت طور التفتت؛ الحاضنة الاجتماعية تلاشت تقريباً بسبب الأزمات الاجتماعية التي فجرها سوء الوضع الاقتصادي وتردي الخدمات مقابل بروز طبقة أثرياء ومحتكري عقود واستثمارات جلهم من أتباع الجولاني، وكان انكشاف توحش جهاز الأمن العام خلال ملف العملاء وما تبعه بمثابة القشة التي ستقصم ظهر البعير، فبعد خروج الناس للشوارع بهذا الزخم مطالبين برأس الجولاني وتفكيك جهاز أمنه وحكومته الصورية والتي لم تكن منذ نشأتها سوى واجهة مدنية لمجموعة من المستبدين الصغار في جهاز الأمن العام وممن يدورون في فلك الجولاني، صار من الصعب إن لم يكن من المستحيل إعادة الناس لبيوتها قبل حدوث تغيير جذري في إدارة شؤون المنطقة. ولا يمكن التنبؤ بما ستؤول إليه الحال لكن ما هو جلي وواضح هو أن الأدوات التي كانت تدار بها المنطقة سقطت وأن واقعا جديداً يبزغ فجره وترسم ملامحه ببطء.