قادت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل البلاد على مدار 16 عاماً ثم أعلنت عدم ترشحها لولاية خامسة، لتنتهي حقبتها بقيادة أربع حكومات متتالية أدارت فيها أزمات كثيرة عصفت في ألمانيا ومحيطها وأزمات أخرى في الشرق الأوسط وصلت ارتداداتها إلى بلاد اللاجئين.
اتخذت ميركل مطلع عام 2015 قراراً يقضي بفتح الحدود تماماً لأكثر من مليون لاجئ قادم عبر طريق البلقان وتركيا إلى ألمانيا. خطوة جريئة وصفتها صحيفة "الغارديان" البريطانية آنذاك بالمقامرة التي آتت ثمارها.
وعندما زاد عدد المهاجرين الذين يعبرون أوروبا قبل خمس سنوات أطلقت ميركل عبارتها الشهيرة "سنتعامل مع الأمر".
وقالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في لقاء مصور مع "دويتشه فيله" DW الألماني إن تداعيات الحروب والأزمات في الكثير من الدول ستسفر عن موجات لاجئين في العالم، مؤكدة في كلمتها بمناسبة العام الجديد 2016 أنه "من البديهي أن نساعد ونستقبل من يبحث عن ملاذ لدينا، بعد أن نجا من الموت والخطر. وألمانيا واجهت تحديات كبيرة وحولت الأقوال إلى أفعال".
وقالت وكالة أسوشيتد برس في العام 2015، إن تدفق اللاجئين بأعداد هائلة إلى أوروبا في العقود الأخيرة ليس مجرد حالة إنسانية طارئة، بل هو بمنزلة ضربة حظ للعديد من دول القارة العجوز التي يهددها بالفعل خطر اقتصادي يتمثل في شيخوخة سكانها.
ماذا قدمت ميركل للاجئين السوريين؟
اتخذت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قراراً غير مسبوق في تاريخ ألمانيا بقبول نحو 800 ألف لاجئ سوري بسبب ظروف الحرب في بلادهم، وذلك بعد أن تداولت وسائل الأعلام عشرات التقارير عن غرق اللاجئين في البحر المتوسط وهم يحاولون الفرار من تركيا الى أوروبا، وعن العصابات التي تستغل حاجتهم للفرار من ويلات الحرب. ومن ثم قررت ميركل أن تتبع سياسة "الباب المفتوح" أمام هؤلاء اللاجئين، تحت شعار "سنكمل مهمتنا بنجاح". وفقاً لموقع "دويتشه فيله" (DW) الألماني.
وتقدم نحو مليون شخص بطلبات لجوء في عام 2015 وحده، حينذاك اعترف وزير الداخلية السابق توماس دي ميزير في منتصف شهر آب من السنة ذاتها على قناة تلفزيونية بأنه كانت هناك "لحظات من فقدان السيطرة".
شارع العرب.. أحد رموز إرث ميركل
تحدث تقرير لوكالة "بلومبيرغ" منتصف أيلول المنصرم عن سياسة ميركل في الانفتاح على الهجرة، واستعرض نموذجاً للاجئين السوريين الذين يعيشون في شارع بدا أنه "خارج ألمانيا". شارع سونينالي في برلين، الممتد مسافة قدرت بخمسة كيلومترات، والذي بات يُعرف محلياً باسم "شارع العرب"، ووصفته الوكالة بأنه "الأقرب إلى موطن كثير من السوريين".
ويتمتع شارع سونينالي بصدى سياسي. في حين تستعد ألمانيا لوداع ميركل المقبل، أصبح هذا الشارع أحد أبرز رموز إرثها، فضلاً عن التحديات المستمرة للاندماج في مجتمع جديد.
ففي هذا الشارع يتمتع السوريون بتمكنهم من شراء اللحوم الحلال، والفستق الحلبي الطازج، والحلويات المحشوة بالقشطة والجوز من بائعين يتحدثون لغتهم العربية.
تغيير غير مسبوق
فيما يتعلق بتأثير سياسة ميركل في فتح اللاجئين وتأثير قرارها بفتح الحدود لما لا يقل عن مليون لاجئ في عام 2015، قالت وكالة بلومبيرغ إن هذا القرار لم يتسبب فقط في حدوث انقسامات في أوروبا، بل حفز الحزب المناهض للهجرة، وتسبب بتغيير التركيبة الثقافية للعاصمة الألمانية برلين في تغيرات غير مسبوقة. منذ انتشار العمال الأتراك على أراضيهم في الستينيات.
استقطاب اللاجئين
منذ الحرب العالمية الثانية، كان الهيكل الديمغرافي لألمانيا محبطاً بشكل كبير، وعليها أن تجد حلاً لسد هذه الفجوة، وينعكس هذا بشكل رئيسي في عدة ظواهر رئيسية، أهمها انخفاض معدل الولادة.
في بداية "الربيع العربي" بدأت الدول الغربية وكندا وغيرها في قبول اللاجئين، وكانت نسب اللاجئين في هذه الدول مختلفة، لكن عدد اللاجئين الذين استقبلتهم ألمانيا من السوريين كان هائلاً، متجاوزاً نظرائها في الدول الأوروبية.
وتعد ألمانيا دولة صناعية حضارية متقدمة، يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة في عام 2014 وفقاً لموقع "واي باك مشين"، كما توقعت دائرة الإحصاء بالعاصمة الألمانية برلين انخفاض عدد السكان من 80.8 مليون نسمة إلى 70.31 مليون نسمة أو 67.7 مليون نسمة حتى عام 2060.
لماذا استقبلت ألمانيا أعداداً كبيرة من اللاجئين؟
"ليس بالإمكان تفادي التناقص الكبير في عدد السكان حتى مع استمرار الهجرة إلى البلاد"، قالها رئيس دائرة الإحصاء الألمانية رودريش إيغلير عام 2015، ما يشير إلى أن ألمانيا اتخذت اللاجئين من مختلف دول العالم كأحد الحلول لمنع انخفاض عدد السكان المتزايد كل عام.
وسُجلت ألمانيا في صندوق الأمم المتحدة للسكان، خامس أكثر الدول في العالم استقبالاً للمهاجرين واللاجئين وفقاً لصحيفة الغارديان البريطانية، وذلك يعني قرابة 5% من أعداد المهاجرين الكلي حول العالم.
في العام 2015 صرح المكتب الاتحادي أن أعداد اللاجئين للنصف الأول في ألمانيا بلغ 32 ألف سوري من أصل 160 ألفا من جميع الجنسيات.
نقص عمالة أم رعاية إنسانية
- الحاجة إلى العمالة
تعمل الحكومة الألمانية على سد فجوة نقص العمالة من المهاجرين وطالبي اللجوء، حيث إنها تستقبل 100،000 لاجئ سنوياً، وأدى نقص العمالة إلى انخفاض التمويل لـ صناديق التقاعد والتأمين الصحي والاستهلاك.
كذلك انخفض معدل البيع والشراء في السوق المحلية من قبل العمال والمنتجين. بالإضافة إلى تدني مستوى الرفاهية في الدولة بشكل كبير، لذا فإن انضمام المهاجرين إلى سوق العمالة هو إحدى الطرق المتبعة للتخفيف من استنزاف الموارد المالية العامة للدولة.
رئيس الوكالة الاتحادية للتوظيف في ألمانيا "ديتليف شيل" أعلن أواخر أب الماضي، أن بلاده تحتاج إلى نحو 400 ألف مهاجر ماهر سنوياً لتعويض النقص في اليد العاملة.
وقال شيل في تصريحه لصحيفة "زود دويتشه" الألمانية حينها إن "الأمر بالنسبة لي لا يتعلق باللجوء، بل بالهجرة الهادفة لسد الثغرات في سوق العمل".
وأضاف "سيكون هناك نقص في العمالة المتخصصة في عدد من المجالات، بدءاً من مجال الرعاية الصحية، مروراً بخبراء المناخ، ووصولاً إلى المتخصصين في الخدمات اللوجستية والأكاديميات".
وأشار إلى أنه "بسبب التطور الديموغرافي، فإن عدد العمال المحتملين في مرحلة العمر المهني النموذجي سينخفض بنحو 150 ألف شخص هذا العام، وسيكون الأمر أكثر دراماتيكية في السنوات القليلة المقبلة".
كم عدد اللاجئين في ألمانيا؟
يشكل المهاجرون واللاجئون المنحدرون من مناطق الأزمات في الشرق الأوسط وأفريقيا الآن نحو 17 في المئة من جميع الأجانب الذين يعيشون حالياً في ألمانيا.
ويعد اللاجئون من سوريا ثالث أكبر مجموعة من أصل أجنبي.
- ألمانيا في المرتبة الخامسة
أظهرت إحصائية صادرة عن مكتب الإحصاء الألماني، أن عدد اللاجئين السوريين في ألمانيا عام 2021 بلغ نحو 800 ألف لاجئ سوري، مشيراً إلى أن عدد اللاجئين السوريين في ألمانيا عام 2009 لم يتجاوز 30 ألفاً.
وأوضحت الإحصائية أن عدد من تقدموا بطلبات للحصول على حق اللجوء إلى ألمانيا بلغ 1.7 مليون شخص، بين عامي 2015 و 2019، بذلك احتلت ألمانيا المرتبة الخامسة في قائمة الدول الأكثر استقبالاً للاجئين بالعالم.
وكشفت وكالة التوظيف الفيدرالية، أن هناك نحو 131،600 سوري موظفون خاضعون لمساهمات الضمان الاجتماعي منذ 2019.
كما تم تسجيل نحو 260 ألفاً و200 سوري بصفة "باحثين عن فرص عمل" في وكالة التوظيف نهاية عام 2019، قرابة 117000 منهم جاهزون لسوق العمل في ألمانيا.
من هي أنجيلا ميركل؟
أنجيلا دوروثيا كاسنر من مواليد 17 تموز 1954، سياسية ألمانية، كانت تشغل منصب المستشارة الألمانية.
دخلت ميركل، عالم السياسة عام 1989، بعد سقوط جدار برلين، الذي كان يفصل بين ألمانيا الغربية، التي ولدت فيها عام 1954، وألمانيا الشرقية التي نشأت فيها وقضت فيها كل حياتها إلى أن توحدت البلاد.
- عالمة الفيزياء
درست أنجيلا الفيزياء في جامعة ليبزيغ، وحصلت على شهادة الدكتوراه عام 1978، وعملت خبيرة في الكيمياء بالمعهد المركزي للكيمياء الفيزيائية، التابع لكلية العلوم من 1978 إلى 1990، والجدير بالذكر أن العالمة الفيزيائية المتميزة ميركل تتقن اللغة الروسية بامتياز.
- بداية متعثرة
بفارق ضئيل فاز الاتحاد المسيحي الديمقراطي وحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي CSU على الحزب الاشتراكي الديمقراطي SPD بقيادة المستشار غيرهارد شرودر في انتخابات عام 2005. سجل الحزب المسيحي الديمقراطي بقيادة المرشحة لمنصب المستشارة، أنجيلا ميركل أسوأ نتيجة له منذ عام 1949. هذه الظروف كانت لا تبدو جيدة في بداية مشوار أي مستشار جديد، لكن ميركل سرعان ما ثبتت أقدامها بين كبار الساسة.
- الحزب المسيحي الديمقراطي
فور سقوط جدار برلين عام 1989 انضمت أنجيلا ميركل إلى الحزب المسيحي الديمقراطي، وعينت في حكومة هلموت كول وزيرة للمرأة والشباب، ثم وزيرة للبيئة والسلامة النووية.
وبعد هزيمة هلموت كول في الانتخابات البرلمانية، عينت ميركل أمينة عامة للحزب، ثم زعيمة للحزب عام 2000، ولكنها خسرت المنافسة لتولي منصب المستشار، أمام إدموند ستويبر عام 2002.
- أول مستشارة في تاريخ ألمانيا
في نهاية المطاف، أتفق التحالف الاتحاد المسيحي مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي تشكيل تحالف كبير. شرودر هنأ المستشارة الجديدة أنجيلا ميركل، التي تم انتخابها في 22 تشرين الثاني عام 2005 من قبل البرلمان الألماني كأول مستشارة امرأة في تاريخ ألمانيا، وأصغر سياسية، والأولى من ألمانيا الشرقية سابقا، وأول عالمة فزياء في هذا المنصب.
أقوى امرأة في العالم
الصحف والمجلات منحت ميركل العديد من الألقاب، بما في ذلك السيدة الحديدية، لمواقفها الصارمة ومنهجها العلمي الجاف مقارنة بالعمل السياسي التقليدي، كما يُطلق عليها الألمان لقب "الأم"، لما يجدون فيها ربما من عاطفة وتفاعل مع حاجياتهم الاجتماعية.
صنفتها مجلة "فوربس" الأميركية على أنها أقوى امرأة في العالم بسبب قوتها طويلة المدى، وإنجازاتها الاقتصادية الرائعة، وصمود ألمانيا في مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية، التي أغرقت معظم الدول الأوروبية في الركود.
بعد طلب دخول أكثر من مليون لاجئ ومهاجر إلى ألمانيا، واجهت أنجيلا ميركل معارضة شديدة في بلدها، وتراجعت سمعتها في الانتخابات، لكنها أصرت على موقفها من قضية اللاجئين ومن المتوقع أن تفوز بجائزة نوبل للسلام.