"أكره بيت الأسد منذ نعومة أظفاري"، عبارة قالها الفنان التشكيلي السوري سهْف عبد الرحمن في أحد حواراته، ليعطينا مفتاحا مزدوجا لقراءة تجربته الفنية نفسها. فهو من جهة منحاز إلى شريحة المهمّشين في المجتمع السوري أخلاقيا وثقافيا وفنيا، المهمشين الذين كانوا وما يزالون وقوداً لآلة النظام الحاكم وحركته، ومن جهة ثانية ونتيجة لذلك فقد زهرت لوحاته وكأنها تعبير فني جماليّ عن خياره ذاك، بمعنى أن لوحاته ملأى بالشخوص والوجوه التي تنبثق من قاع الذاكرة والموت، وكلها وجوه وشخوص من الحياة المسحوقة للكائن السوري الواقف أمام أسئلة المصير والحيرة والقهر. سوف نرى المصير التائه والرعب والمتاهة تظهر من خلال أعماله كلها.
وقلق السؤال حاضر حتى في كيفية الرسم عنده، وكيفية تخليق اللوحة، فهو يلاحق الفكرة نفسها ويحفر فيها ويكرر محاولات استخراجها من رحم المخيلة والتصور، مستعملا التجريب والتجريب حتى يصل إلى نقطة يشعر معها بأن الفكرة اكتملت واستنفدت ولم يعد بالإمكان إضافة شيء، من هنا نفسر تشابه بعض التكوينات والتشكيلات في لوحاته كتعبير عن تقصّده القيام بعدة ولادات للفكرة نفسها. وكأنه يطارد بذلك شيئا مجهولا يريد تعيينه في شكل فني، لا يقتنع به ثم يكرر المحاولة، هذا كمن يحفر في طبقات (الكدّان) في الأرض ليصل إلى (الصخرة)، تلك الصخرة هي الفكرة وقد تم تحقيقها، إنها المعنى الأخير والذي تبدأ منه مرحلة اللامعنى، أو العدم. وكأنها ثنائية الوجود والعدم تتضافر في لحظة واحدة لتكون هي حقيقة الكائن.
سهف لا يفكر بـ (فكرته) الفنية بشكل عقليّ، فالفنّ ليس ولادة منطقية، هو يرسم ويتأمل وينتظر ما تقول له اللوحة ويصغي لندائها لتقرر أحيانا إلى أين تأخذه وأين توقفه. ولكنه ميّال دائما في كل مرحلة لإنتاج لوحات يقيم بينها علاقة قرابة، وكأنها تنتمي لعائلة فنية ومزاجية ورؤيوية واحدة، هذا ما يؤول للمشاهد ذلك التقارب بين عدة لوحات معا في التقنية والأسلوب والرسالة. مؤكدا في ذلك على أنه يخلق مشروعا يجمع عدة لوحات متقاربة، ومن مشاريعه تلك لوحات سماها (طوابع البريد الحربي) ومجموعة أخرى سماها (كل شيء عن الصمت) ومجموعة لوحات ثالثة سماها (شياطين سهف عبد الرحمن) ومؤخرا مجموعة باسم (ربما أحدٌ ما هنا) وقبلها (لا أحد هنا). كل مجموعة من هذه المجموعات يمكن وصفها بمشروع يغطي مرحلة ما بكاملها، وكلها بأثر شهوة التجريب والتجديد ومغامرة البحث عن المجهول الغامض الفني.
في مشروعه الأخير (ربما أحدٌ ما هنا) انطلق فيه من فكرة أن الأشياء التي نمحوها ونرميها في سلة المحذوفات هي أكثر بكثير من الأشياء التي نحتفظ بها! سلة المهملات هي جزء من حياتنا. ووجد أنه ينبغي إعادة الحياة إلى هذه المحذوفات المنسية وهي منسية غالبا بصورة قسرية ونتيجة صراع أو رعب يضطره معه الكائن إلى تمويت أحلامه وأفكاره وذكرياته، ولكن ثمة أحدٌ هنا، يجب مدّ اليد إليه لإعادته والتذكير به. أعاد سهف تلك المنسيات على شكل وجوه وبورتريهات لأناس كانوا هامشيين عبروا كالنسيم، وبالكاد يسترجع ملامحهم من الذاكرة. إنه كمن يريد البحث عن ذاته في سلة المحذوفات لك، خاصة حين شعر بما سماه (صدمة اللجوء) وهو يعيش في النمسا (فيينا)، وكنوعٍ من حماية الذات وتحصينها من التيه غرق في سلة محذوفاته ليستنبط منها مرتكزات نفسية ووجودية تعطيه معنى مختلفا، فهو وعى أن اللجوء يحوّل الإنسان إلى (نكرة)، فيما الإنسان يبحث منذ ولادته عن أن يكون معرّفا، وهذا الصراع الأبدي بين (التنكير) و(التعريف) يتوهج بشدة حين يجابه المرء معضلة النفي القسريّ عن بلاده. حينئذ يتعرض الكائن للتنكير في المنفى، ويؤمن سهف أن مشروع الإنسان هو مقاومة العبث والإصرار على التعريف. ويحمّل لوحاته في مشروع (أحد موجود هنا) هذه الفكرة ليعيد تعريف الإنسان كشكل من أشكال وعي الذات، ورفض الانمحاء. إنه رفض للمحذوفات حين تكون عملا قسريا هي الأخرى. لوحاته التي تعرّف الإنسان هي مجابهة جمالية لوظيفة الديكتاتور الساعية إلى محو الكائن عبر تنكيره. دور سهف كفنان أن يتقمص الآخرين ويشعر بتنكيرهم، وحين يعيد تعريفهم فهو يعيد تعريف ووعي ذاته أيضا.
يفيد الحديث عن (صدمة اللجوء) في التذكير بقيمة الجائزة التي حصل عليها سهف في فيينا وهي جائزة (المواطن العالميّ) التي تمنحها منظمة يونسكو، فاسم الجائزة يؤكد على أن سهف كفنان قد تجاوز مرحلة الشتات بين الوطن والمنفى إلى أن يكون مواطنا في العالم، في إشارة غنية وواضحة إلى الهوية الكونية للمبدع الأصيل. (وقد نشر موقع تلفزيون سوريا سابقا تحقيقا خاصا عن نيله الجائزة، وفي المادة تلك تعريف بالفنان يغنينا عن تكراره هنا).
في مشروع لوحات (طوابع البريد الحربي) تعمقت فكرة التواصل مع (الآخرين) هؤلاء، نحن هنا أمام أربعين (لوحة | طابع)، كل طابع لوحة (قياس 15 × 15 سم) مرسومة على ورق أسمر أحرقه من جوانبه ليعطي دلالة الاحتراق. يذكّر الطابع الحربي هنا بأن البريد الحربيّ في الواقع يأتي بلا طوابع! واختراع فكرة الطابع الحربيّ ربما لم يسبقه إليها أحد تشكيليا. ويذكر سهف ومن باب المصادفة ذات المعنى التراجيدي المهمّ أنه عرض هذه اللوحات في فيينا في مكان كان النمساويون يستعملونه كملجأ خلال الحرب العالمية الثانية!
تتناسخ الوجوه المقهورة في لوحات سهف، فترى في بعض اللوحات وجها واحدا، وفي البعض الآخر وجهين أو ثلاثة، والعدد هنا مع أنه عفوي ولكنه ليس عشوائيا مرتجلا. بعد الانتهاء من الوجوه يتأملها سهف ويمارس معها دور (المبصّر) ويلعب معها ويحاول تغيير بعض مصائر وجوه أخرى من خلال ما تنتطق به الوجوه المنجزة. فهو يتبنى فكرة أن العمل الفني قد يساعد على اكتشاف الذات وقد تصبح اللوحة مرآة تصنع الشكل وليست مرآة عاكسة كأداة محايدة.
ولعبة الأعداد قادته إلى إنجاز لوحات بعنوان (1 - 1) فجمع الواحد إلى الواحد يعطي حالة إيجابية عادة، ولكن سهف يريد التأمل في الخسارة البشرية الفادحة حين يصبح الواحد ناقصا واحدا. كأنه يقول ما قيمة الواحد حين ينقص اثنين أو ثلاثة؟ هي إذا تعبير آخر وبشكل ذكيّ عن فكرة التواصل مع الآخر، الذي يقبع في هاجس سهف الفنيّ.
ومع أننا نرى عناوين لمراحل تشكيلية عنده، لكن سهف لا يعطي اللوحة بحد ذاتها عنوانا، أو اسما، بل يجمع عددا منها تحت مسمّى ما، إلا إذا قام بالمشاركة في معرض جماعيّ فيضطر حينئذ لتسمية اللوحة لأنها تصبح يتيمةً في بيئة خارج بيئتها. يشعر سهف بالقلق على لوحة واحدة تذهب لمعرض جماعيّ، كأنها فرد من العائلة لا يرتاح إلا إذا رجعت إلى عائلتها الحاضنة! (بل هو كما قال لي يشعر بأنه سيضيع من غير لوحاته إذا شاركت في معرض أكثر من ثلاثة أيام! يحس بأن لوحاته هي حماية له ووجودٌ، وياما أنقذته اللوحة من مأزق ما).
في كثير من لوحات سهف عبد الرحمن يبرز تشكيل الوجوه بشكل بيضويّ، أو متطاول، ومع أنه لم يفكر (عقليا) بذلك لكن المسألة واضحة بسطوع في أعماله. قد يفسر ذلك بأن الوجه الذكوريّ يميل للتطاول وأن الدائرة بطبيعتها أنثوية. وهو يملك عددا قليلا من الوجوه الدائرية. وعلى الرغم من أننا نرى ما يناقض فكرته عند الفنان الشهير مودلياني المعروف بوجوهه النسائية المتطاولة أيضا، فهو يحلل ذلك من وجهة نظره بأن مودلياني كان يرسم الفعل الذكري على الأنثى. وأنه كان يذكّر الأنثى.
سهف يرى أن الخطّ المستقيم في اللوحة قد يكون جزءا من الدائرة، وتكرار الخطوط المستقيمة قد يؤدي إلى الحصول على دائرة. ويبقى غريبا نوعا ما أن يرى سهف أن الاستقامة في الخطوط ليست ذكورة بل قد يرى الأنوثة في الخط المستقيم.
الوجوه المتطاولة لديه تأخذ أحيانا بلا قصد شكلا أيقونيّا، بل ثمة عدد قليل من اللوحات يرى فيها المشاهد هالة القديسين فوق الوجه. ويعطي الفنان هنا دلالة مناقضة لواقع الحال مع رمز الأيقونة، فهو لا يراها في اللوحة إلا إدانةً للقداسة التي تتناقض مع الشكل المشوّه للوجه. فالأيقونة تم توظيفها لتخدم التناقض في اللوحة وليس لكي تكرر الدلالة الطهرانية والرحمانية نفسها المتداولة في أيقونات القديسين. حين توضع الأيقونة على وجه قبيح فهذا يعني إدانةً وليس قداسة. وكتشكيليّ لعب على التناقض البصري بين الرمز الأيقونيّ وبين الوجه الذي لا يحمل حالة رحمانيّة في اللوحة. ويذكّرنا هذا – وإن بصورة معاكسة - بحالة نادرة قدمها الفنان لؤي كيالي حين رسم وجه يهوذا وعليه هالة القديسين، في موقف شجاع ومغامر من كيالي حيث لا يمكن أن ترى يهوذا عليه هالة في أي لوحة من لوحات تاريخ الكنيسة. (يرى سهف أن لؤي كان يرسم كطفل موهوبٍ).
يتناقض معنى الإبداع مع التصنيفات والمدارس الشائعة، وتمنحنا لوحات سهف مثالا حيا على عصيان التصنيف الواضح الحادّ، وإذا أتينا لمسألة التجريد في اللوحة فسوف نرى أن التجريد عند سهف يشبه قصيدة نثر، تحررت من الأشكال والقيود، ولكنها قد تصبح تافهة مع ذلك! أي أن التحديث في الفنّ ليس بالضرورة داعيا لتحقيق حالة مبدعة جميلة. وهذا يعني أن بعضا من فنون ما بعد الحداثة كسرت فكرة (الفنان المفاهيميّ) وأحلت محله (الفنان البصريّ) أو فنونَ (الفراغ). ومع أن هذه الفنون ما بعد حداثية وسّعت خيارات الحرية للفنان لكن لا يمكن غضّ النظر عن أنها خلقت حالة قوية من التشوّش لدى المتلقي. وهو كمتلقّ للفن البصريّ يرى أن ما يستوقفه من لوحات تجريدية نادر جدا، وقد يرى 700 لوحة تجريدية ليختار منها عددا قليلا جدا يمكن التعاطي معها فنيا جماليا وبروحٍ فيها المتعة والجاذبية.
ليس عند سهف أسلوب (الطبيعة الصامتة) وهو لا يستسيغ ذلك أيضا. فالطبيعة الصامتة (تمرينٌ)، وقد كان فان غوخ يمارس الطبيعة الصامتة كحجّة للرسم وليس كغاية، وثوريته أتت من أنه استعمل موضوعات المدرسة الكلاسيكية ليدمرها ويحرفها عن دلالاتها وصنع منها ثورة دلالية مناقضة. لقد أنهى فان غوخ الموقف الكلاسيكي، وسهف لا يمكن وصفه بأنه كلاسيكيّ على الإطلاق، على الرغم من ذلك الإتقان الباهر في تقنياته والتي تدلّ على أنه (امتلك) قواعد اللعبة الأصلية ثم تركها جانبا لينطلق في المعنى الأرحب للإبداع.
ما هو ملفت للنظر عند سهف أنه لا يحبّ اللون! هو يقرّ بذلك بصراحة وشجاعة غير آبه بما يقال. يقف هيّاباً أمام ضرورة العمل في الوقت نفسه على معالجة سطح اللوحة من جهة، ومعالجة اللون من جهة ثانية، لا يستسيغ تلك اللحظة. فيحسمها بأن يذهب في خياراته إلى (الأسود والأبيض). ولكن المدقق في طريقة تعامله مع هذه الثنائية الصعبة أسود أبيض، فسوف ينسيه سهف أنه أمام لونين فقط! فالقدرة الفنية على توليد أكثر من أسود وأكثر من أبيض في اللوحة نفسها، هي قدرة دالة على أصالة الموهبة وطاقاتها اللامنتهية. بل ثمة تحدّ أصعب يشعر به المبدع لأنه أمام لونين فقط ينبغي من خلالهما تأدية مهمّة التلوين ليقرأ المتلقي كامل الدلالات اللونية حتى تلك الغائبة عن اللوحة، من خلال استغراقه في (أبيضات) كثيرة (وأسودات) كثيرة، جمع أبيض وأسود! وإذا عثر المشاهد على لون آخر غير الأسود والأبيض، فإن سهف يستحضر ذلك اللون كرائحة لون وليس كحضور مركزيّ. هو يحب تعبير (رائحة اللون) فيقول رائحة أحمر، رائحة أصفر. ويستخدمه كبهارات وليس كأساس لطبخ لوحته. بل لا يقنعه اللون ولا يشعر برضى فنيّ عنه. لقد (جرّب التلوين) فأجرد أن التلوين يخلق لديه توترا غير إبداعيّ.
في علم الألوان فالأسود ليس أسود صافيا، والأبيض كذلك. هناك أسود مزرقّ، أسود مائل للاحمرار، وهناك أبيض مصفرّ وأبيض مزرقّ أيضا. وأمام هذه الكثرة النادرة في اللونين يجد سهف مغامرته الأكثر تحديا. فيخلق لوحة تأخذ المتلقي لينقّل بصره في درجات الأسود ودرجات الأبيض، لذلك لا يشعر بأنه خسر شيئا مهمّا حين تخلى عن التلوين.
قد يناسب الأسود والأبيض والرماديّ مأساة السوريين وتفاصيلها منذ آذار 2011 تلك المأساة التي لم يتفرج عليها سهف ولم يجعلها موضوعا خارجيا، فهو عاشها ودخل في تفاصيل سوداوية كئيبة في رحلة هروبه ولجوئه. وهو عانى المأساة كسوريّ من داخلها ولم يجد فاصلا بينه وبين هذه التراجيديا الكبرى. لذا لن ترى أثرا مباشرا أو توظيفيا لمأساة السوريين في لوحاته، في حين سوف يشعر المتلقي بأن لوحات سهف تروي تلك التراجيديا بلا ادعاء ولا استعلاء، بل بكل انكسار جوانيّ وحسّ وجوديّ.
الآن كما قلنا يعيش سهف في النمسا، أمام واقع جديد بالمطلق، يشعر معه بالنفي، يشعر كإدوارد سعيد أنه (خارج المكان) ولكي يثبّت ذاته في المكان، فقد استخرج تلك الوجوه غير المنفصلة عن فضاء الألم السوريّ من قبل 2011 ومن بعد. قد لا يكون معنيّا بتثبيت المكان بصريا عبر رسمه، لأن ذلك لن يساعده في إعادة امتلاكه، لهذا يوزّع معنى المكان على الشخوص والوجوه التي تبدو وكأنها خارجة من قبورٍ سواء قبور في الذاكرة أم في الواقع المعاش حاليا.