بعد الدمار والموت الذي خلفه الزلزال، بات بوسع أهالي الشمال السوري أن يستعينوا بتجربتهم مع الحرب التي امتدت لعقد من الزمان بهدف التغلب على كل المصاعب التي تركها الزلزال وراءه.
فقد اكتشف المحامي حسان قولي أرتالاً من الجثث التي لم يتعرف إليها أحد والتي جمعت في مشرحة المشفى بمدينة جنديرس، حيث توفيت عائلات بأكملها، كما يحدث عادة مع الزلازل التي تقع والناس نيام، تماماً كحال هذا الزلزال الذي انهارت معه أبنية بأكملها على عجل.
"لم يتعرف إليهم أحد"
في جنديرس، معظم السكان قدموا حديثاً بعدما نزحوا من مناطق سورية أخرى، ولذلك لم يتعرف أحد إلى تلك العائلات والأسر.
بيد أن القولي الذي كان عضواً في نقابة المحامين السوريين الأحرار، فرع حلب، وهي مؤسسة معارضة أقيمت في مناطق سيطرة المعارضة طور مع غيره من الأعضاء بروتوكولاً للتعامل مع الجثث التي لم يتعرف إليها أحد بعد خروجها من تحت أنقاض الأبنية التي دمرتها براميل الأسد المتفجرة خلال الحملة التي استهدفت المدينة والقرى المحيطة بها في الفترة ما بين 2012-2016.
المحامي حسان قولي
عند الوقوف بالقرب من موقع بقيت فيه فرق الإنقاذ التابعة لمنظمة الخوذ البيضاء تحاول انتشال المزيد من الجثث من تحت كتلة مستديرة من الركام، يعلق المحامي على هذا المشهد بقوله: "سألنا الجيران عن تلك الأسر، فلم يتعرف إليهم أحد".
تحتوي مشرحة جنديرس على 38 جثة بلا اسم حسبما ذكر لنا المحامي قولي، وهنالك ما لا يقل عن 12 جثة أخرى دفنت دون أن يتعرف إليها أحد.
عمل المحامي قولي هو ومسؤولون من مجلس المدينة على إنشاء سجل يحدد هوية الجثث بالأرقام، حيث التقط صورة لكل وجه مع مقطع فيديو لكامل الجسم، وأضاف كل ذلك إلى السجل. كما عمل على ترقيم كل جثة وكل شاهدة وضعت مؤقتاً على قبر، وذلك حتى يتعرف الأهالي حال قدومهم على المكان الذي دفن فيه أحباؤهم.
إلا أن تلك الجهود لم تفلح حتى الآن سوى في حالة واحدة، وذلك عندما تطابقت الصور الموجودة في السجل مع صورة أبرزها رجل في هاتفه الجوال لعمه الذي أتى ليبحث عنه.
الشمال السوري المُستهلك
ألقت الحرب بظلالها الثقيلة على قدرة الشمال السوري على التأقلم مع أعنف زلزال شهدته المنطقة خلال قرن.
إذ هنالك المشكلة التي سلطت عليها الأضواء والتي تتصل بتسليم المساعدات لجيب الثوار في الشمال السوري، خاصة تلك التي ترسلها الأمم المتحدة، بما أن لوجستياتها تتمتع بأهمية كبيرة لكونها قادرة على التحكم بالسياسة فيما يخص الانقسامات الداخلية لهذه الدولة المفتتة.
بيد أن العبء الأكبر يقع على عاتق من يحاولون التعامل مع الوضع على الأرض، وذلك لأن منطقة الزلزال مليئة بنازحين من كل بقعة في سوريا، إذ يقدر عددهم بثلاثة ملايين نسمة بالإضافة إلى أهالي المنطقة الذين وصل عددهم قبل الحرب إلى ثلاثة ملايين.
صبيان في مبنى رياضي تم تحويله إلى مركز للإيواء بمدينة عفرين
في جنديرس القريبة من عفرين والقرى المحيطة بها، ارتفع عدد السكان الذي كان قبل الحرب 250 ألفاً إلى 700 ألف بحسب ما ذكره مدير الهيئة الصحية في المنطقة، أحمد حاج حسان. وبعد وقوع الزلزال، تم نقل مئات الناجين إلى المشافي خلال ساعات، ولهذا يقول أحمد حاج حسان: "استهلكنا في يوم واحد من الأدوية ما نستهلكه في العادة خلال شهر".
تمثل عفرين وجنديرس حالة خاصة من بين الحالات الخاصة الأخرى، إذ سيطرت على تلك المنطقة وحدات حماية الشعب التابعة لحزب العمال الكردستاني حتى عام 2018، وذلك عندما شنت المعارضة المدعومة من قبل تركيا هجوماً على تلك المنطقة وسيطروا عليها.
وهكذا رحل قسم من سكانها وقدم إليها مهجرون من مناطق أخرى، وخاصة من ريف دمشق والغوطة الشرقية بعدما تدمرت تلك المناطق بسبب قصف النظام وروسيا.
يصف لنا شاب يدعى طه إسماعيل حياته التي أمضى نصفها على الطرقات، إذ بعمر الرابعة عشرة، عندما قامت المظاهرات ووصل القتال بعد ذلك إلى مدينته حمص، هرب هو وأسرته إلى الريف الشمالي، بيد أن أباه توفي بسبب أزمة قلبية وهم في الطريق.
وبعد اعتقال صهره ومقتله في سجون النظام، نزحت الأسرة من جديد إلى جنديرس في الشمال، بيد أن تلك المنطقة تحولت إلى جبهة قتال بين فصائل المعارضة ووحدات الحماية، ما دفع الأسرة لتنتقل إلى ريف حلب الشمالي. ثم انتقل إسماعيل الذي صار عمره اليوم 26 عاماً مرة أخرى برفقة زوجته وطفليه للعيش مع شقيقه في عفرين بعدما ضرب الزلزال المنطقة، حيث صار كلاهما يقيمان في القاعة الرياضية نفسها التي يقيم فيها المئات من البشر غيرهما.
يمضي إسماعيل أيامه وهو يبحث عن الأدوية التي يحتاجها ليسيطر على مرض الصرع لديه، بيد أن تلك الأدوية غير موجودة في كل الأماكن، وهذا ما دفعه للقول: "إني شاب في أول عمري، ولدينا عائلة وأقارب يهمنا أمرهم، وهذا ما يزيد خوفنا من المستقبل".
طه إسماعيل
معظم العاملين في مجال الإدارة المحلية حديثو العهد بهذه المنطقة، فقد كان يزن ناصر طالب هندسة يافعاً عندما قامت الحرب ووصلت إلى الرقة، بيد أن عمره اليوم وصل إلى ثلاثين عاماً، كما صار يحمل إجازة في الهندسة، ووصل إلى منصب نائب رئيس المجلس المحلي، لكنك عندما تنظر إلى وجهه تحس أنه على شفا البكاء دوماً.
جنديرس، مدينة صغيرة ذات أصول عريقة واسم يوناني، بلغ عدد سكانها قبل الحرب 17 ألفاً، وكانت فيها بساتين زيتون ومزارع تحيط بالمنطقة. أما اليوم فقد وصل عدد سكانها إلى 115 ألفاً، ومع وصول عدد قتلى الزلزال فيها إلى 1200 حتى الآن، يمكن اعتبارها بأنها المنطقة الأشد تضرراً بسبب الزلزال في سوريا.
كان أول شيء فعله ناصر يوم الإثنين الماضي هو الاستعانة بخبراته الهندسية لنصب ألواح شمسية لإعادة تشغيل شبكة الهاتف والإنترنت بعد انقطاعها، غير أنه اليوم صار يتحسر على ذلك، إذ يقول: "ما حدث هو أن هواتف الجميع عادت إلى العمل وفاضت على الفور بآلاف الرسائل التي تعلن وفاة أهلهم وأحبائهم".
تدهورت الأمور منذ تلك اللحظة، ولهذا يخبرنا بأنه لم يستطع النوم، لأن الواتساب لديه بقي يستقبل مكالمات تطلب المساعدة طوال الوقت، وهكذا صار يمضي أيامه وهو يحاول أن يؤمن خياماً لمن دمرت بيوتهم أو أصبحت غير آمنة للعيش، ومع ذلك مايزال المئات ينامون في العراء تحت أشجار الزيتون حتى الآن.
في حين أخذ آخرون يطلبون منه طعاماً أو دواء، فبما أنه لا توجد أي مؤسسات حكومية رسمية تعمل على معالجة الأمور، بل هناك فقط حكومة مؤقتة في الشمال السوري، والجميع يعرف بأنها تدار من قبل تركيا، لكونها هي التي تدفع رواتب الأطباء والمعلمين وموظفي المجالس المحلية. بيد أن تركيا تعاني من أزمة اليوم، بعدما قتل الزالزال أكثر من 35 ألف شخص.
نور النادي بعدما بترت ساقها اليمنى عند تعذر إخراجها من بين الركام
ما مصير الأطفال الأيتام في جنديريس؟
لا بد أن نكرر هنا أن الأمر الذي يزيد المشكلة سوءاً هو أن غالبية السكان ليسوا من أهالي المنطقة، فمن يتعاملون مع الأطفال الذين يُتموا بسبب الزلزال لا يعرفون إن كان لدى هؤلاء الأطفال أقارب من الأباعد بوسعهم أن يعتنوا بهم أم لا، كما أنهم لا يعرفون أين يعثرون عليهم في حال وجودهم.
ففي مشفى عفرين، عثر الأطباء على عمة كبيرة بالسن لتعتني بمحمد محمد وهو طفل في الثامنة من عمره فقد والديه وشقيقتيه في الزلزال.
كما حاول الأطباء تعقب أثر والد الطفلة نور النادي التي تبلغ من العمر ثلاث سنوات، والتي نجت من الكارثة التي قتلت بقية أفراد أسرتها في جنديرس.
بيد أن الأطباء اضطروا لبتر ما بقي من الساق اليمنى لدى تلك الطفلة وهي تحت الأنقاض قبل أن يتم إخراجها من أطلال شقتها، فنامت بعد ذلك وهي تمسك بإصبع من قفاز جراحي، تم نفخه لها كبالون، حتى تهدأ وتنام.
مايزال الآلاف من المشردين من الرجال والنساء والأطفال يتدبرون أمور العيش قدر المستطاع، ولهذا صار لا بد من حماية أي شاحنة معبأة بالأغذية من الحشود التي تتقاطر عليها وذلك عبر الاستعانة بجنود أخذوا يطلقون النار في الهواء ليبعدوا الناس يوم الثلاثاء الماضي.
بدا ناصر في غاية التجهم، حيث صار يطالب بوقف الحرب بما أنها أصل كل المشكلات التي يعاني منها السوريون، وعندما نظر إلى الصيدلية التي تتكسب منها أسرته، قال: "يا ليتني مت قبل أن أرى كل هذا".
المصدر: The Times