ظنَّ بعض السوريين أنهم وبعد ثماني سنوات مِن اندلاع ثورة ضد "نظام الأسد" أقذر نظام عرفتة البشرية، والذي لم يتمكّنوا - للأسف - مِن إسقاطِ حتى رأسه (بشار الأسد)، نتيجة خذلان العالم الذي يرعى إرهاب "الأسد" وينمّيه، نعم ظنّوا أنهم قادرون - على الأقل - مِن تجربةِ إسقاط مسؤول محلي - عيّنتهُ الثورة -، بعد اتهامات كبيرة بالفساد والمحسوبية طالته وطالت مجلسه، علماً أن المسؤول ذاته يُشارك أساساً رغبةَ السوريين ذاتها في إسقاط النظام ورأسهِ.
ظهيرة يوم السادس مِن شهر آذار الجاري (أي قبل أيام مِن إتمام الثورة السورية عامها الثامن)، شهدت مدينة الباب تحركات مدنيّة خالصة لمواجهة الفساد في المجلس المحلي للمدينة، مطالبين بإسقاطِ رئيسه جمال عثمان، والعودة إلى صناديق الاقتراع مِن أجل اختيار رئيسٍ جديد وأعضاء جدد بانتخابات حرّة ونزيهة (جميلة جدّاً جملة "انتخابات حرّة ونزيهة" ويبدو أنها تنعش القلب، جميع العرب عندما ثاروا على أنظمتهم المستبدة طالبوا بها، لكنهم لم يُحصّلوا مِن جمالِ الجملة غير حريةِ ترديدها بنزاهة).
بالعودة إلى المظاهرة التي طالبت بإسقاط مجلس مدينة الباب ورئيسه، لعدم تحقيقه خلال عامين مِن تعيينه - لا انتخابه - الخدمات الأساسية التي طالب بها أهالي المدينة والمهجّرون والنازحون فيها خلال تلك المدة، وعلى رأسها الماء والكهرباء، فضلاً عن البطالة التي ازداد معدّلها، عقب القرار التركي الأخير، الذي يقضي بالعبور المباشر للشاحنات التركية إلى الداخل السوري.
طبعاً، سبق مظاهرة المطالبة بإسقاط المجلس المحلي ورئيسه، تنظيم سائقي الشاحنات في الباب، وقفة احتجاجية على القرار التركي، رافعين لافتات كتب على بعضها "مئات العائلات تتضرر بسبب دخول السيارات التركية إلى مناطق درع الفرات"، إلّا أن الشرطة المحليّة فضت المظاهرة بالقوة، واعتدت بالضرب على بعض الإعلاميين، وبات القرار سارياً والشاحنات التركية تدخل وتخرج عبر معبر "باب السلامة" على مرأى دواليب الشاحنات السوريّة التي باتت مُقعدة.
مِن أبرز التهم التي أطلقها المتظاهرون ضد المجلس ورئيسه، الفساد والمحسوبية
نعود، في مظاهرة إسقاط "محلي الباب"، كان مِن أبرز التهم التي أطلقها المتظاهرون ضد المجلس ورئيسه، الفساد والمحسوبية، والتأكيد على عدم مراعاة العائلات الفقيرة في مدينة الباب، خاصة تلك التي لا معيل ولا دخل لها، وأن معظم السكّان والمهجّرين والنازحين في المدينة، لا تصلهم مستحقّاتهم - المقدّمة مِن منظمات الدعم -، بينما رئيس المجلس، وأعضاء المجلس، والمحسوبون على المجلس، وأقارب وأصدقاء رئيس أعضاء المجلس، تصل إليهم المعونات والمخصصات إلى منازلهم، غير مضطرين حتى للمطالبةِ بها، أو الوقوف على طوابير انتظارها.
جالت المظاهرة أحياء مدينة الباب وشوارعها الرئيسية قبل أن تنهي مطافها أمام مبنى المجالس المحلية، وتهتف بشعارات رافضة لـ بقاء هيكلية المجلس الحالي دون عملية انتخابية، تشمل رئيسه وجميع الأعضاء الموجودين منذ أكثر مِن عامين، مشدّدين على ضرورة تشكيل مجلس جديد ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، مِن أجل العمل - بجدٍّ ونزاهة - على تأمين الخدمات العامة والأساسية، وتخفيف معدّل البطالة، وتخفيض الأسعار، ومراعاة العائلات الفقيرة، والنهوض بالمدينة واستكمال عملية إعادة إعمارها.
الرئيس "عثمان" يرد
لم يسكت رئيس المجلس المحلي (جمال عثمان) عن تلك المظاهرات التي خرجت ضدّه، وخرج على الهواء مباشرةً - في برنامج "سوريا اليوم" على تلفزيون سوريا - ليدافع عن نفسهِ وعن خدمات المجلس المستمرة، وعن جاهزيته للحوار مع الجميع، مع التأكيد على شفافية المجلس الذي "لا يرفع رجل مشروع على رجل مشروع آخر" إلّا بعد مناقشة الأهالي.
استهل الرئيس "عثمان" مداخلته الصوتية بعد السلام بالقول "لا يخفى على أحد ما مرّت به سوريا خلال 8 سنوات مِن الثورة، مِن بطش النظام وبراميله وسجونه ومعتقلاته، وكذلك ما لاقاه هذا الشعب العظيم مِن ظلم داعش.. تراكمات هذه السنوات كان لها أثرها العميق في جميع مجالات الحياة إن كانت اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية"، كلام مغلّف بتبرير استباقي، بعيد جداً عن عبارة "مَن أنتم" القذّافية، وقريب جداً مِن "فهمتكم" الماركة المسجّلة لـ"زين العابدين".
حاول "عثمان" - وفق "فهمتكم" -، أن يتهرّب مِن السؤال عن مطلب إسقاط المجلس وإعادة هيكليتهِ مِن جديد، واتجه نحو الإسهاب عن الخدمات التي يقدّمها المجلس، وشفافيته في العمل، وأن "محلي الباب" هو مِن أفضل المجالس على صعيد النظام الداخلي - إن كان موجوداً أساساً - وآلية العمل وتوزيع المكاتب واللجان، وكأنه يقول للمتظاهرين "روحو شوفو غير مجالس، لا نظام ولا آلية ولا مكاتب ولا لجان، وما حدا طالب بإسقاطن"، لكنه أبداً لم يشر في مسألة أفضلية المجلس مِن حيث كيفية تشكيله والخدمات المقدّمة للأهالي، أرادَ هنا أن يكون صادقاً.
الرئيس عثمان: تركيا تقدّم القرار لنا
وفي ردّه على أحد مطالب المتظاهرين التي نقلها أحد أعضاء تنسيقية مدينة الباب وضواحيها (محمد أبو الفتوح) - في اللقاء المتلفز ذاتهِ -، وهو أن يكون المجلس المحلي مستقلاً في قراره - المسلوب مِن الحليف التركي -، أجاب الرئيس "عثمان"، أن "تركيا كانت صادقة في عملية تحرير المنطقة مِن داعش، وتقف بصدق في جميع المشاريع للنهوض في المنطقة، وهي الداعمة والناصحة، وتقدم كل أنواع الدعم المادي واللوجستي والمعنوي، كما أنها تقدم أخيراً (القرار) لنا"، وبناء على جوابٍ كـ هذا، يبدو أن الرئيس "عثمان" أراد القول إن "المجلس المحلي برئيسه وأعضائه - صنع في تركيا - وفهمكم كفاية".
بالإصرار على إعادة طرحِ سؤال المتظاهرين "مَن عيّنكم؟"، لأنه يحق لـ سكّان المدينة أن يستعيروا كلمة "القذّافي" ويقولون بملء أفواههم لـ رئيس المجلس وأعضائه "مَن أنتم؟"، هنا اضطر الرئيس "عثمان" للإجابة عن السؤال، مؤكّداً أن الجميع غالباً لا يعلم كيف تشكّل المجلس المحلي، موضحاً أنه بعد اجتماع جرى بين قادة الفصائل العسكرية وممثلين مِن الفعاليات المدنيّة والثورية ومسؤولين مِن الحكومة المؤقتة، شكّلوا المجلس واختاروا الرئيس والأعضاء على أساس "الكفاءة والثورية"، ولم يتم تعيينهم تعييناً.
كما أكّد الرئيس "عثمان"، أن المدة الزمنية له وللأعضاء لم تحدّد، ولكن لا بأس بالالتزام بالفترة المتعارف عليها للمجالس المحلية وهي - بالنسبة له - حصراً "4 سنوات" (حسب ما ينص قانون الإدارة المحلية الذي يعمل به "نظام الأسد")، علماً أن "اللائحة الداخلية للمجالس المحالية في المحافظات" التي أعدّها الائتلاف الوطني السوري قبل سنوات، حدّدت ولاية المجلس المحلّي بـ ستة أشهر، و"الائتلاف" أولى بأن يكون متعارفاً عليه مِن "النظام" الذي ثرنا عليه وعلى قوانينه.
لنفترض - وهو كذلك – أيها الرئيس "عثمان"، أن المجلس تم تشكيله برئيسه وأعضائه مِن قبل أولئك القادة العسكريين لفترة "مؤقتة"، في ظرف اسثتنائي فرضه الأمر الواقع الذي شهدته مدينة الباب بعد تحريرها مِن "داعش"، والحاجة الماسة لِمَن يسيّر أمورها الخدمية، وهذا التشكيل كان وما زال "مؤقتاً" كما قلت، ولكن لا يُحدّد التوقيت وفق المتعارف عليه الذي تعرفه أنت، إنما يحدّده الأمر الواقع أيضاً، فإن استقامت الأمور في المدينة وجب حل المجلس - المشكّل مؤقتاً - وإعلان انتخابات مباشرة لـ يختار الأهالي مجلسهم الجديد برئيسه وأعضائه، أو أن الفترة المؤقتة للمجلس الحالي باتت "شبه دائمة"، في ظل اتهامات طالت رئيسه وأعضاءه بالفساد والمحسوبيات، تزامنت مع خروج مظاهرات تطالب بإسقاطه وإعادة هيكليته، وجب عليكَ هنا وعلى الأعضاء الاستقالة، ويمكنكم بعدها الترشّح للانتخابات، وتقديم برامجكم الخدمية، لـ تنالوا ثقة الأهالي مجدّداً.
أحد أبرز وأهم الأسباب التي اندلعت مِن أجلها الثورة السورية، هي أحقية الشعب السوري باختيار ممثليه
ولكن - للأسف -، يبدو أن الرئيس "عثمان" (ذو الكفاءة والثورية) لا مشكلة لديه في تجاهل أحد أبرز وأهم الأسباب التي اندلعت مِن أجلها الثورة السورية، وهي أحقية الشعب السوري باختيار ممثليه، لا أن يُفرضوا عليه فرضاً، بدءاً مِن اختيار رئيس البلاد، وليس انتهاء باختيار أي ممثلٍ محلّي، لذلك تعامل مع المظاهرات عبر الرّد عليها بـ"خطابات وادعاءات" وأن النسبة التي خرجت ضده "لا تشكّل 5 % مِن سكّان المدينة"، لم يبقَ غير أن يقول إن "المتظاهرين هم قلّة قليلة، متآمرون، جراثيم، مندسون"!
أخيراً، وبعيداً عن أحقيةِ المتظاهرين في إسقاطِ مجلسٍ لم يفعل ما يتوجّب عليه خلال عامين، وبعيداً عن كيفية تشكيل المجلس وتعيين مسؤوليه، ولنفترض أنَّ رئيسه كان وما زال نزيهاً شفّافاً كفؤاً ثورياً، يصل الليل بالنهار ساهراً على خدمة الأمّة، ورغم ذلك أراد أهل المدينة إزاحته مِن منصبه وتشكيل مجلس جديد بانتخابات حرّة، ما الضير؟ ما المانع؟ لو أنّ الرئيس "عثمان" سجّل سابقةً في الامتثال لـ أوامر الشعب، وقدّم استقالته بناء على طلبهم - مع مراعاة أحقيته بالترشّح للانتخابات فيما بعد - ما الذي يُضرّه لو أنّه مثّل علينا الاستقالة وشارك في صنع "بروقة إسقاط النظام ورئيسه وانتخابِ رئيسٍ جديد"، كنا وما زلنا ننتظر أن تصيرَ واقعاً منذ ثماني سنوات، وكلّفتنا حتى الآن مئات آلاف الشهداء والجرحى، ومثلهم مِن المعتقلين، وتهجير وتشريد الملايين في شتّى أصقاع الأرض! لكن لا، مستحيل، لا يمكن أن يفعلها، معظمنا (المعارضة) إن لم يكن كلّنا مصابون بـ"متلازمة بشار"، يصعب علينا إفساح المجال لـ غيرنا، لأننا كلنا مؤمنون بأنه لا بديل لنا.