لم يستطع تنظيم "الدولة" وقذائف النظام وبراميله وصواريخه إجبار "إبراهيم عكوش" على ترك الرقة، وعجز طيران التحالف وقصف "قوات سوريا الديمقراطية" وتدميرها المدينة وإخضاعها، عن زحزحته من داخل جدران بيته المدمّر. ولإيمانه بأن الإنسان يموت لمرة واحدة فقط؛ اختار أن تكون تلك المِيتة في المكان الذي زُرِع فيه.
يوم أمس الأحد، غلّف الحزن مجدداً أحياء مدينة الرقة على نبأ وفاة إبراهيم عكوش (أبي إسماعيل) الذي أبى أن يغادرها بالرّغم من كل النوائب التي ألمّت بها، ليقضي فيها الأجل بعد 90 عاماً صلباً كأسوارها العباسية.
في أواخر عام 2017، وبعيد أسابيع قليلة من انسحاب (داعش) وسيطرة "قسد" على الرقة، كان لتلفزيون سوريا وقفة مع "أبي إسماعيل"، آخر الرجال الباقين في المدينة، إلى جانب زوجته، في بيته المطلّ على الدمار قرب الحديقة "البيضا"، بشرفته ونوافذها المحطمة، ودراجته الهوائية المركونة جانباً وقد كُتب عليها "اتّقِ الله يا هذا".
يتحدث أبو إسماعيل عن القصف الذي تعرض له حيّه وهو غير آبه به، فكثيرة هي الأبنية التي سوّيت بالأرض، والسيارات المحروقه المصطفّة أمام بيته، والركام الذي اختلط فيه الإسمنت والحديد والقذائف التي لم تنفجر بعد.
ويقول إنه قضى أياماً بغاية الصعوبة و"لا تخطر على بال بشر"، وتحدث عن ضيق التنفس الذي يسببه غبار القصف وروائح البارود والقتلى الذين دفنوهم بالحديقة "البيضا" داخل حفرة أحدثها صاروخ. ويصف تلك الليلة التي انهالت فيها أكثر من ستين قذيفة على محيط بيته.
إبراهيم عكوش: "الموتة وحدة مو اثنين"
"الموتة وحدة مو اثنين"، يقول أبو إسماعيل ويضيف بأنه سيموت لا محالة سواء إذا بقي في الرقة أو خرج منها، فآثر البقاء. كان يرفض طلب زوجته بالدخول إلى الحمام كلما اشتد القصف، ويعلّق قائلاً: "أنا بشيبتي أتخبّى بالحمام بعد هذا العمر؟ مو عيب!".
جسد أبي إسماعيل مليء بالشظايا؛ في يده، وفي رأسه الذي ظل يؤلمه ويصيبه بالدوار بسببها، ورفض الخروج من المدينة للعلاج بعد أن خلت من أطبائها.
ظل طوال فترة حصار الرقة يعيش على ما تبقى من مونة البيت، ويرش الماء على الخبز اليابس، إلى أن انتهت المعارك في المدينة وأضحت تحت سيطرة "قسد".
كان الراحل يختم القرآن الكريم كل خميس، وأوصى من حوله بتكحيل عينيه عند موته، وكان يحتفظ بكفنه منذ أكثر من عشر سنوات: "جهزت كفن وأعطيته لواحد من قرايبي المتوفين، وجهزت كفن ثاني وهو موجود بالبيت حتى الآن".