لم يعد الصيف حاملاً موضوعياً للسفر، فترف الاصطياف أصبح بعيد المنال، والشتاء هو الآخر لم يعد يرسم غيومه في أحلام المزارعين السوريين، ولا أحد من التجار اليوم يبحث عن فضل القيمة، بين حركة رأس المال الثابت، ورأس المال المتداول. لقد سيطر الموت على مقاليد الحياة السورية، وسجّلت عملة الخوف من المستقبل أعلى معدلاتها في سوق البورصة الاجتماعية، فسقطت من التداول عملة الأمان، والاستقرار، وأصبحت سوريا الوطن حلماً جميلاً، في الذاكرة، وليس في الواقع. وتحولت حياتنا إلى رواية، تمعن في الإفصاح عن نفسها كل يوم، ولكل فصل من فصولها المأساوية، أبطاله.
في متن النص ثمة حرب، أصبح من العسير إحصاء أطرافها، أو معرفة أهدافهم، أما في الهامش فثمة قصص ترويها مسيرة الألم، على طريق النزوح واللجوء والهجرة غير الشرعية. أشخاص لم يرد في خاطرهم أن المأساة ستأكل أحلامهم البسيطة، أفرادا، وعائلات، وجدوا أنفسهم في خضمّ القلق، تلطمهم أمواج الحيرة والضياع. وقد التقيت بالكثير منهم، وأتاحت لي الظروف أن ألتقي بالفروع التي غادرت سوريا بحثاً عن ملاذ آمن، والتقيت أيضاً بالأصول التي تنتظر من فروعها الخبر اليقين، فالمغامرة يقوم بها أحد أفراد العائلة، لعل أملاً يحثّ إليه الخطا، فيتبعونه بحكم صلتهم به.
فترى الزوجة التي غادرت برحلة محفوفة بالمخاطر، وهي حامل، لعلها تضع مولودها في إحدى الدول الأوربية، على أمل أن يحصل وليدها على جنسية تلك الدولة، بحكم ولادته فيها، ومن ثم تتقدم إلى تلك الدولة، بطلب لم الشمل الذي يؤهلها أن تستقدم زوجها، وبقية أولادها بطريقة شرعية، وهناك الرجل الذي جازف بكل ما يملك من مال وحياة، لعله يصل إلى إحدى الدول الأوربية التي تمنح السوريين حق اللجوء، ومن ثم يتقدم بطلب "لم الشمل"، ليستقدم بقية أفراد عائلته بطريقة قانونية، وهكذا... أصبحت المغامرة سبيلهم الوحيد للوصول إلى أحلامهم بأمان. وكأننا نجسد مقولة دانتي: "لبلوغ الجنة على المرء أن يعبر الجحيم". وليتها كانت جنة.
***
سألت صديقي الأرمني "آرسين" الذي التقيته بمحض الصدفة، ذات يوم في أحد مقاهي بيروت، عن سبب وجوده، فأخبرني أنه ينتظر أحد سماسرة تهريب السوريين إلى أوروبا، وعلمت منه أن ذلك السمسار وعده بجواز سفر بديل "مزور"، وأرسين هذا من مدينة تل أبيض /105 كيلومترات/ شمال شرقي الرقة. عرفته مذ كنت أميناً لمكتبة المركز الثقافي هناك، وكان الأرمني الوحيد المثابر على المطالعة، فغالبية الأرمن انصرفوا إلى الأعمال المهنية.
سألته إن كان سبب مغادرته لسوريا دينياً، فقال سأجيبك بكلام منقول: "مشكلتنا لم تكن يوماً مع الدين، أو مع السياسة. مشكلتنا كانت وما زالت مع أولئك الذين يصرّون على تسييس الدين، وتديين السياسة".
وهنا تذكرت قول جوزيف كامبل: "لا اعتقد بأن الناس يبحثون عن معنى الحياة بقدر ما يبحثون عن الشعور بأنهم أحياء".
في الطرف الآخر هناك مهاب، الفلسطيني القادم من مخيم اليرموك في دمشق، ومهاب هذا قد سافرت زوجته وأخذت معها ابنها الرضيع، واستطاعت أن تصل إلى ألمانيا، وهو ينتظر أن تستكمل زوجته المدة القانونية، وبعد ذلك يمكنها أن تتقدم بطلب لم الشمل.
سألته لماذا جعل زوجته هي التي تنفّذ المغامرة وليس هو. فأجابني أن زوجته تتقن اللغة الإنكليزية، وشكلها يوحي بأنها أجنبية، فهي شقراء، ممشوقة القوام، بينما هو لا يتقن غير اللغة العربية. إضافة إلى ذلك، ثمة تسهيلات للنساء، أكثر مما هي للرجال.
ثمة شباب غير متزوجين، غادروا على مراكب الموت، أو عبر حافلات، أو بجوازات سفر مزورة، منهم حسام، الذي قال لي وهو يغادر إلى تركيا: "عندما بدأت ببناء مستقبلي، انهار الوطن"! وقد وصل هو الآخر إلى السويد، إلا أنه لا يستفيد من لم الشمل، فلم الشمل لا يشمل الإخوة والأخوات.
***
لقد اقترفنا البعاد، واتسعت المسافة بين أفراد العائلة الواحدة، ثمة من ملأها بالأمل، والأكثرية قد انتعلوا بؤسهم، وساروا في طرقات اليأس، فهي الطرق الوحيدة التي بقيت سالكة. أصبح مصطلح (لمّ الشّمل) من مصطلحات الأمل في حياة السوريين، وكأن الحياة الكريمة هي لمن أدرك بأن "الوطن غال"، فباعه، أما البقيّة فقد سقطت عن أغصان شجرهم اليابس أحلامهم الخضراء، وتحولوا إلى كائنات بيولوجية، يمكن اختصارها بسلة غذاء تقدمها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أو الهلال الأحمر. وأصبح غدنا هو الغد الذي ننتظره وليس الغد الذي نصنعه، فالمأساة السورية رغم التوثيق اليومي لمعطياتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، وبالرغم من الحضور الإعلامي الذي لم يسبقه مثيل عبر التاريخ، ما زال الكثير من وجوهها طي الكتمان، أو التجاهل. فالأنظار الآن تركض بين الليرة السورية وقيمتها الشرائية، وستظهر النتائج الكارثية لمتلازمة القهر السوري قريباً، لا بل قريباً جدا. ولن تقتصر على بيع الأعضاء وزواج القاصرات وتراجع شرائح اجتماعية كبيرة إلى ما وراء خط الفقر، وانتشار الأميّة.
ثمة مشكلات اجتماعية هائلة، ومترابطة، ليس أولها التفكك الأسري، ولن يكون آخرها ما لا نريد ذكره. وما زال هناك من يقول إن المياه ستعود إلى مجاريها، ويتناسى أنها لن تكون صالحة للشرب. فالكل يبحث عن إثبات وجهة نظره، وليس عن الحقيقة. ولم يفكر أحد في تجسير الهوة بين الفرضيات الإعلامية، والوقائع . وكأن حياتنا أصبحت مادة إعلامية، حقوق نشرها غير محفوظة، فاكتب ما تشاء، المأساة السورية تحتمل.
أخشى ما أخشاه، أن نستعير من إخوتنا الفلسطينيين، مصطلح (عائدون) فهذا يرعبني، لأننا إن فعلنا ذلك، فلن نعود أبدا.