منذ الاعتداء الذي شنّه حزب العمال الكردستاني الإرهابي على مقر مديرية الأمن في العاصمة التركية أنقرة، مطلع أكتوبر الماضي، يعمل التنظيم على تصعيد نشاطه ضد تركيا بشكل متزايد.
وكان الهجوم الذي شنّه في 12 يناير الجاري على قاعدة عسكرية تركية في شمالي العراق، الأحدث في إطار الهجمات التي نفذها ضد القوات التركية المنتشرة هناك.
وعلى الرغم من أن التنظيم يستخدم منذ سنوات أراضي إقليم كردستان العراق والأراضي التي يُسيطر عليها فرعه السوري "وحدات حماية الشعب" في شمال شرقي سوريا لمهاجمة القوات التركية المنتشرة في سوريا والعراق والتخطيط لشن هجمات إرهابية في الداخل التركي، فإن هذه الهجمات تزايدت بشكل ملحوظ منذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي أجرتها تركيا في أيار الماضي.
لذلك، فإن الدافع الأساسي للتنظيم لزيادة عملياته ضد تركيا يتمثل بالدرجة الأولى في محاولة التأثير على السياسة الداخلية التركية، بعد فشل رهانه على دعم مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية لإحداث تغيير سياسي والإطاحة بحكم الرئيس رجب طيب أردوغان.
حقيقة أن البلاد تقترب من انتخابات محلية عالية المخاطر في نهاية آذار المقبل، تُساعد في فهم دوافع حزب العمال الكردستاني للتأثير على السياق الداخلي.
مع إظهار أردوغان بعد فوزه بولاية رئاسية جديدة تصميماً على مواصلة الوجود العسكري التركي لمكافحة الإرهاب الانفصالي في شمالي سوريا والعراق، فإن التنظيم يسعى من خلال تصعيد هجماته في الوقت الراهن إلى جعل النقاش بشأن جدوى وتكاليف الوجود العسكري التركي في سوريا والعراق طاغياً على السياسة الداخلية قبل الانتخابات المحلية.
مع ذلك، فإن قدرته على إثارة مثل هذا النقاش تبدو محدودة لسببين: الأول أن تصاعد النشاط الإرهابي يدفع مختلف الأحزاب السياسية التركية إلى تركيز خطابها حول الحاجة إلى مواصلة العمليات التركية لمكافحة الإرهاب الانفصالي.
والثاني أن تصعيد النشاط الإرهابي يُحرج حزب الشعب الجمهوري المعارض الذي يسعى للدخول في تحالف انتخابي مع حزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" الواجهة السياسية الجديدة لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذي تعتبره الحكومة ذراعاً سياسياً لحزب العمال الكردستاني، كما أن تركيز النقاش السياسي الداخلي حول مكافحة الإرهاب يخدم أردوغان بقدر أكبر من حزب العمال الكردستاني أو حزب الشعب الجمهوري المعارض.
ومن الأسباب الرئيسية التي قللت من فوائد دعم حزب الشعوب الديمقراطي لمرشح المعارضة الرئاسي في انتخابات مايو الماضية، هي أن قضية الإرهاب تسببت بانقسام عميق داخل جبهة المعارضة وشكلت مادة دسمة لأردوغان للتصويب على علاقة مرشح المعارضة بحزب الشعوب ومن خلفه تنظيم حزب العمال، إلى جانب محاولة التأثير على السياق السياسي الداخلي، تبرز مساعي حزب العمال الكردستاني لإعادة تشكيل الصراع المسلح مع تركيا كدافع آخر لتصعيد نشاطه الإرهابي.
بالنظر إلى الانتكاسات الكبيرة التي مُني بها التنظيم في السنوات الأخيرة من جراء العمليات العسكرية التركية ضده في شمالي العراق وسوريا، فإن حزب العمال يسعى لإظهار أنه ما يزال قادراً على العمل في الصراع.
ويعتقد التنظيم أن رفع وتيرة الهجمات على القوات التركية في شمالي العراق وسوريا ومحاولة شن هجماته في الداخل التركي تضغط على أردوغان لإعادة التفكير في مزايا الدخول في عملية سلام جديدة معه على غرار عملية السلام في عام 2013، والتي لم تصمد لأكثر من عامين.
رغم ذلك، فإن أحد النتائج الأساسية التي استخلصتها تركيا من انهيار عملية السلام في 2015، هي أن تصعيد مكافحتها للإرهاب الانفصالي في الداخل وفي سوريا والعراق هو السبيل الوحيد لتقويض قدرة حزب العمال الكردستاني على استهداف تركيا وعلى استخدام الأراضي التي يُسيطر عليها في شمالي سوريا والعراق لمواصلة نشاطه المسلح.
نجحت تركيا إلى حد مُعين في هذه الاستراتيجية من خلال الحد من قدرة العمال الكردستاني على التحرك في كردستان العراق ومن خلال تقطيع أوصال المناطق التي كانت وحدات حماية الشعب الكردية تُسيطر عليها في شمال شرقي سوريا قبل عملية درع الفرات، عام 2016، لكنّ حقيقة أن التنظيم وفرعه السوري ما يزالان قادرين على التحرك في شمالي سوريا والعراق لتشكيل تهديد لتركيا يضغط على أنقرة للتفكير في خيار شن عمليات برية جديدة لإنشاء منطقة عازلة على امتداد الحدود الجنوبية مع سوريا والعراق.
في ظل الحوار الذي دخلته تركيا مع النظام السوري برعاية روسية وإيرانية، قبل عام، والهدف الأساسي المتمثل له بالتعاون في مكافحة الإرهاب الانفصالي والمساعي التي تعمل عليها أنقرة للتعاون مع بغداد في مكافحة الإرهاب أيضاً، فإن الدافع الثالث لحزب العمال الكردستاني لتصعيد نشاطه الإرهابي يتمثل في محاولة الضغط على تركيا وإفشال مساعيها للتقارب مع أنقرة وبغداد.
علاوة على ذلك، فإن التداعيات الإقليمية للحرب الإسرائيلية على غزة وما أفرزته من تركيز الجهد العسكري الأميركي على التعامل مع التحديات الإقليمية الجديدة الناجمة عن الحرب، تخلق آفاقاً جديدة لكل من تركيا وإيران لتصعيد ضغطهما المشترك على الوجود العسكري الأميركي في سوريا، وفي العراق، تعمل طهران على تصعيد هجماتها عبر وكلائها العراقيين على القوات الأميركية المنتشرة في البلاد.
ويعتقد حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري أن تصعيد العمليات العسكرية ضد القوات التركية يقوض من قدرة أنقرة على الاستفادة من الانشغال الأميركي في أزمة الشرق الأوسط الناجمة عن حرب غزة لتعزيز مكافحتها للإرهاب الانفصالي.
وأخيراً، لا يُمكن عزل التطورات الإيجابية التي طرات مؤخراً على العلاقات التركية الأميركية والتقدم الجديد في قضيتي عضوية السويد في الناتو وملف شراء تركيا مقاتلات "إف16" الأميركية، وهنا يبرز الدافع الرابع لحزب العمال الكردستاني ويتمثل في محاولة إفساد التقارب التركي الأميركي من خلال تعميق الأزمة بين أنقرة وواشنطن في ملف "وحدات حماية الشعب" وفي قضية مكافحة الإرهاب عموماً.