صادف يوم الأمس الأول من آذار يوم جمعة، وليوم الجمعة وقع جميل لدى أبناء الثورة وله في ذاكرة السوريين مساحة كبيرة تحمل في ثناياها صوراً لا يمكن أن تمحى، سواء كانوا من أبناء الثورة أم من الشريحة الصامتة، وحتى من المؤيدين لنظام الأسد.
مع بداية آذار هذا والذي يأتي بعد 13 عاماً من بداية الثورة السورية كانت ساحات مدن سورية ثلاث تعج بالمتظاهرين الذين نزلوا بالآلاف لأجل مطالب عدة، ولكن يجمعهم جميعاً مطلب رفض قبول النظام، وهو ما يجمع عليه جميع أبناء سوريا تقريباً. في محافظتي إدلب وحلب خرج المتظاهرون في عدة مدن وبلدات منتفضين في وجه الجولاني وجماعته بعد أن بلغت سطوة أمنيي الجولاني وأزلامه على الناس حداً لم يعد يطيقون عليه صبراً، وبالوقت ذاته لم ينسوا أن يهتفوا ضد الأسد كما يفعلون منذ 2011 وحتى اليوم.
الضيق الاقتصادي سبب رئيسي لانتفاض الناس سواء في إدلب أو في حلب، وإن كان التذمر من السطوة الأمنية والفوضى عنوان هذه الاحتجاجات
الوضع الاقتصادي في عموم شمالي سوريا كارثي ويزداد سوءاً مع مرور الوقت، لأن الفئة المتحكمة (سلطات الأمر الواقع) في مفاصل الشمال سواء في إدلب أو في حلب تزداد ثراء وسيطرة على الموارد، في وقت لا تشهد فيه المنطقة أي مشاريع ضخمة تساهم في خلق فرص عمل تستوعب مئات الآلاف من القوى العاملة الموجودة هناك، وهذا الضيق الاقتصادي سبب رئيسي لانتفاض الناس سواء في إدلب أو في حلب، وإن كان التذمر من السطوة الأمنية والفوضى عنوان هذه الاحتجاجات لكن الفساد والمحسوبيات والشللية باتت اليوم تشكل عائقاً أمام أي تنمية محتملة للمنطقة.
في السويداء ومنذ أشهر طويلة تستمر المظاهرات في عموم المحافظة مطالبة بتحقيق الحل السياسي، وإسقاط هذه المنظومة التي تحكم سوريا بالحديد والنار منذ ستة عقود، مظاهرات حاول النظام جاهداً إخماد شعلتها بوسائل عدة لكنه فشل فلجأ إلى الحل الذي لا يعرف أن يطبق سواه، وهو الحل الأمني؛ هاجمت قوات النظام المتظاهرين في السويداء وأطلقت النار عليهم وقتلت مدنياً وأصابت آخرين في سابقة تحدث لأول مرة منذ بداية حراك السويداء، وفي اليوم التالي للجريمة التي ارتكبتها أجهزة الأمن خرج المتظاهرون بأعداد مضاعفة في تأكيد على أنهم لن يتركوا الساحات وأن رصاص النظام لن يرهبهم.
مع كل حدث كبير تبرز أهمية ما يعني أن يكون للناس قدرة على التظاهر والاحتجاج وإيصال مطالبهم ورسائلهم، وما العدوان على غزة إلا دليل واضح على أهمية فعل الاحتجاج، ففي سوريا الخارجة عن سيطرة النظام خرجت أكبر نسبة متظاهرين وعدد مظاهرات في عموم الوطن العربي. لم يتوقف الناس في شمالي وجنوبي سوريا عن التظاهر والتعبير عن رفضهم للمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة.
امتلاك القدرة على الفعل والتأثير عبر النزول للشارع وعمل الاعتصامات والوقفات لأجل الضغط على صاحب القرار كان أهم مكسب من مكاسب الربيع العربي الذي حورب دولياً وإقليمياً، عبر تقديم كل الدعم الممكن للقوى الانقلابية لأجل إحكام سيطرتها ومنع تحول الدول العربية إلى دول تحكم بالصناديق. تستمر المظاهرات في شمالي سوريا من دون توقف رغم أن القصف الروسي والأسدي لم يتوقف ورغم أن عشرات الميليشيات الإيرانية تتربص بالمنطقة وتواصل استهدافها بشكل يومي، أي أن وجود عدو واحد يهدد وجود الجميع لا يعني السكوت على التجاوزات والانتهاكات التي تقوم بها سلطات الأمر الواقع، ولا يجب القبول بالفساد تحت أي حجة وهذا يأتي في صلب فكرة حق الاحتجاج والتظاهر، وهو ما يحدث في سوريا شمالاً وجنوباً.
استمر السوريون وسيستمرون في احتلال الساحات والميادين لأجل تحقيق مطالبهم، وأيضاً لرفض أي مشروع حل سياسي قد يفرض من الخارج
السوريون شاهدوا ما حدث ويحدث في بلدان الربيع العربي التي هجر فيها المتظاهرون ميادين التظاهر وساحات كانت تعج بأغاني الثورة وهتافات تطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية، لتتحول هذه الدول إلى سجن كبير مفتوح لا يستطيع فيه أي مواطن التعبير عن ضيقه حتى من الوضع الاقتصادي، فضلاً عن الوضع السياسي والديمقراطية وتداول السلطة. لذا استمر السوريون وسيستمرون في احتلال الساحات والميادين لأجل تحقيق مطالبهم، وأيضاً لرفض أي مشروع حل سياسي قد يفرض من الخارج لأجل القبول بوجود الأسد كسلطة أمر واقع، وبعد التطبيع العربي والإقليمي مع نظام الأسد وقبول بقائه سيسعى كثير من الدول والجهات لأجل إقناع المعارضة بقبول التعامل معه، وهنا تأتي أهمية ساحات التظاهر وهتافات الحرية لأجل الوقوف في وجه من ستسول له نفسه من قيادات المعارضة بالقبول بما يعرض عليه من حلول لا ترضي عموم أبناء الثورة؛ وهنا بيت القصيد.