لماذا وقفتم مع كل ثورات العالم وتخلفتم عن دعم الثورة السورية؟

2024.01.02 | 07:11 دمشق

لماذا وقفتم مع كل ثورات العالم وعجزتم عن دعم الثورة السورية؟
+A
حجم الخط
-A

تُتحفنا أقلام المفكرين العرب والمسلمين والمنظِّرين والشعراء المفطورين على الحرية والإبداع والليبرالية ذات الأوجه المختلفة، في تغنِّيهم ودعمهم وتأييدهم للثورات التي اندلعت في العواصم العربية وبعض الدول الإسلامية، المطالِبة بالحرية والإصلاح السياسي_الديمقراطي وتداول السلطة، باستثناء سوريا وثورة الشعب السوري التي دخلت عليها أو أُدخلت إليها وجوهاً وكيانات كان المقصود تشويه صورتها الحيَّة والحقيقية، فطالتها الاتهامات والمؤامرات والتحشيدات الطائفية والمذهبية، بمجرَّد أن طالبت بالتغيير السلمي والإصلاح السياسي للسلطة.

حيث دأبت معظم النُّخب العربية والمفكرين على النقد والتجريح في حق شعب قُتل منه أكثر من 500 ألف وهُجِّر أكثر من 12 مليون نازح، بالإضافة إلى ملء السجون السورية بالآلاف من أصحاب الرأي والفكر وغيرهم، بحجة أن هناك مؤامرة لضرب النظام وتمرير المشروع الأميركي الإسرائيلي في الشرق الأوسط، وبأن ثورة الشعب السوري هي ثورة دينية مسلحة مرتهنة للغرب واستعماره، حيث وقف الكل في صفّ الثورات كلّها في التاريخ العربي، والتي عَدُّوها من المتحولات، بينما خروج السوريين على نظام الأسد ليس كذلك، فالمتحول الوحيد لديهم هو نظام الأسد المتربع على العرش منذ أكثر من خمسين عاما، والذي ينبغي الانحياز له بحجة الوقوف في وجه العقل الديني والسياسي الإسلامي، الذي وصل إلى أوج الانحطاط والانغلاق انطلاقاً من عدم جواز خلع الحاكم حتى لو لم يعدل، إذا كانت في منازعته إثارة للفتن.

وتحت هذه الحُجة سيقت كثير من الأكاذيب والأحابيل في طرح المتناقضات السياسية. فبعد حرب غزة: هل فقد هذا الخطاب السياسي للنظام مفاعيله؟ وماذا قدم النظام السوري الحالي لشعب غزة وفلسطين الذي يُذبح كل يوم؟ وهل فعلا لدى الكيان الصهيوني القدرة على إسقاط النظام في سوريا؟ ولماذا التأجيل طالما أن المنطقة على أبواب تغيرات جيوبوليتيكية بدأت من باب المندب ولن تنتهي في حوض البحر المتوسط وصولاً إلى الصراع الروسي الأوكراني الذي ضجر منه الغرب وأوروبا بعد اشتعال جبهات الشرق الأوسط وباب المندب بدءاً من عاصمته غزة..؟

عام 2023 كان عاماً ثقيلاً بالحروب على منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، وعام 2024 هو عام بدء استحقاقات حالة السيولة وتقريش الحروب وعدم الاطمئنان والارتباك في عالم مأزوم

من هنا بدأت البلدان المحيطة بسوريا وبموقعها الجيوسياسي تحصد الثمن، وهو ثمن ثقيل بكل الأحوال، فلا يزال الضغط شديداً على النظام الأردني عبر سوريا المفخخة، تارة عبر آلاف المقاتلين من الحشد الشعبي الذين أُقفلت بوجههم الحدود العراقية – الأردنية، وطوراً عبر جبهات المخدّرات الشمالية المفتوحة مع نظام دمشق منذ سنوات، وثالثة عبر "علكة" تهجير وتوطين شعب غزة، والهدف تحويل هذا البلد إلى أداة سياسية أكثر منها ماليّة، لإغراق المجتمع الأردني والسعودية والدول الخليجية بالمخدّرات، مع ما تتكلَّفه شحنات المخدرات من عملية تدوير حول العالم من إفريقيا الى أميركا الجنوبية، ومعها استخدام تقنيات طائرات "الدرونز". 

عام 2023 كان عاماً ثقيلاً بالحروب على منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، وعام 2024 هو عام بدء استحقاقات حالة السيولة وتقريش الحروب وعدم الاطمئنان والارتباك في عالم مأزوم، يُصارع على المنافسة لإدارة شؤون الصراع وفق موازين جديدة للقوى، لكن أخطر ما ينتظر العام المقبل هو انكشاف الجانب المصلحي الاقتصادي التجاري لعمليات الصراع، التي تبدو للوهلة الأولى محلية إقليمية ذات دوافع قومية أو طائفية أو إرهابية.

حرب الشرق الأوسط، بفعل المكرمات الأميركية لإسرائيل، حرفت الأنظار عن حرب روسيا وأكرانيا، وحتى اليوم لا سيطرة عليهما من حيث النتيجة، وبقدر صعوبة إقامة طاولة تفاوض فلسطينية إسرائيلية، هناك صعوبة في إقامة توافق بين روسيا وأوكرانيا. وأتت أزمة جديدة عالمية تتعلق بأمن الملاحة في البحر الأحمر وما فرضته من تحوُّل جيوسياسي واستقطاب دولي، بدأ يعجِّل نتيجة ذلك من الصراعات العسكرية والعقوبات والمواجهات الاقتصادية والحملات الدعائية، بالتمهيد لظهور وتحديد أحجام القوى العالمية وترتيب جديد لقواعد اللعبة الجديدة، وكذلك سعْي كلّ طرف للوصول إلى أفضل مركز يمكّنه من الحصول على أكبر قدر من عملية تقاسم النفوذ.

فبعد أن دفعت سوريا وشعبها بفضل النظام الحاكم الأثمان الكبيرة في تدمير بنية الدولة وتقسيمها، تُترك اليوم لمصيرها المستباح من قبل العديد من الدول، قصفاً وتدميراً وتدخلاً لتقويض السيادة، في حين يبحث العالم العربي عن مكان مؤثِّر وفاعل، كي لا يدفع وحده الثمن الباهظ في تقاسم النفوذ الدولي على المصالح والثروات والمواقع الاستراتيجية لدول المنطقة، وهذا يظهَّر كمشروع حين أرادوا تفريغ غزة من سكّانها، من أجل تأمين مشروع الممرّ الاقتصادي التجاري، والتمهيد لبدء استكشاف آمن لكميّات الغاز الهائلة التي تكشَّفت في بحر غزة، ومعها تبدأ عمليات الاستكشاف التركية مقابل السواحل الليبية، وبعده تفرض إيران جمارك سياسية على حقّ المرور في البحر الأحمر وخليج عدن وباب المندب، وهذا يؤكِّد أن كل هذه المشاريع العسكرية والاقتصادية والأمنية، مترابطة بمصالح الدول الكبرى ودول الإقليم المؤثرة، فهكذا استفادت طهران من رهانها في دعم القضية الفلسطينية وحركة حماس، ومن هذه المعارك الدامية التي أفرزت وستفرز حتماً موازين قوى دولية وشرق أوسطية تصبُّ في مصلحتها، رغم أن إعلان الحوثي _وهو أمر مفيد لنُصرة غزة_ التعبئة لنُصرة فلسطين وشعبها وأهل غزة، في قطع الطريق عبر باب المندب وخليج عدن وتهديده خطوط الملاحة الدولية إلى البحر المتوسط، فهذا أعطى المؤشر الأكبر على عملية عسكرة البحر الأحمر والتحشيد الدولي، الذي استطاعت فيه واشنطن التي تمتلك القوة وتحويلها إلى نفوذ وتأثير عبر دول عديدة، انضمت إلى المشروع الأميركي، سواء في عملية "حارس الازدهار" أو عبر عملية "طوفان الأقصى" ودعم إسرائيل في ارتكاباتها.

وكما أحْجمت العديد، لا بل كل البلدان العربية عن سوريا وتركتها فريسة للنظام في القتل والتهجير، تنصلت من مسؤولياتها حيال أمن البحر الأحمر، الذي تطل عليه سبع دول عربية، وكلها لها علاقات تاريخية مع واشنطن. نتيجة انعدام الثقة بأيّ وعود أميركية أو تحالفات استراتيجية، وستتوضح هذه الاستراتيجيات حين تبدأ الشركات الأميركية العاملة في سوريا بحراسة قوات أميركية خاصة، في زيادة عمليات استكشاف النفط. ومعه حتماً سنشهد عن إعلان اتفاق أميركي – إيراني، يضمن بوساطته حلفاء طهران في لبنان تأمين عمليات استكشاف حقول الغاز اللبنانية.

كلّ ذلك سيتبلور بعد الانتهاء من فرز الانتخابات الأميركية، ومواصفات الإدارة الجديدة في البيت الأبيض، ومعها موعد دخول نظام الرئيس الروسي بوتين كلّه في حالة اختبار على أبواب استحقاق رئاسي جديد، لمعرفة مدى القبول أو الرفض لسياساته الداخلية، وكلفة حربه مع أوكرانيا.

هناك لاعبون جدد سيدفعون الثمن، أولهم النظام السوري، بسبب انتهاء صلاحيّته السياسية، ولذلك لا بدّ من استبداله

لكن أسوأ وأخطر انكشاف، هو ما نتابعه يومياً من صلافة للدور الأميركي في حرب غزة، وسلوك إدارة بايدن في الدعم غير المشروط والمفتوح لجرائم نتانياهو، ورغبات جيشه الوحشية ورفض مبدأ الوقف الفوري لإطلاق النار، ومحاولة شراء الوقت لمصلحة استمرار إسرائيل بالقتل والتشريد والتجويع.

كلّ ذلك، فرض نفسه حكماً على صناع القرار عند العرب، في ظلِّ عجزهم أمام قواعد اللَّعبة المركبة وهي في مرحلة التشكيل، فهناك لاعبون جدد سيدفعون الثمن، أولهم النظام السوري، بسبب انتهاء صلاحيّته السياسية، ولذلك لا بدّ من استبداله. ومعه حتماً سيكون ذهاب رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو وتحالفه، ولن تقدر السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس على الاستمرار في الحكم، لأن نتائج معركة غزة أكبر من قدرة هؤلاء على الاستمرار، خاصة بعد تسوية النزاع مع حماس، ومعها البدء في البحث عن بديل لكيفية التعامل بين واشنطن وطهران، ومن هنا كانت عملية تسليم المِلفّ النفطي والغازي وفق صفقة أميركية إيرانية، للثنائي الشيعي في لبنان. أما في اليمن، حيث إصرار واشنطن الاستمرار في العمل مع الحوثيين، لكن بقيادة أكثر اعتدالاً لضمان مسارات التجارة في باب المندب، وسلامة الحركة في البحر الأحمر، والحرص على عدم الاعتداء على الأهداف والقطع البحرية الإسرائيلية والأميركية، وأخيراً استخدامهم كورقة لمشاغلة السعودية، التي انتهجت خطاً اقتصادياً وسياسياً متقدماً، وله هامش كبير في حرية الحركة والمناورة حول العالم..