زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي آكار الاخيرة إلى السودان والتجول في جزيرة سواكن الإستراتيجية أثارت معها موجة من ردود الفعل الإقليمية بين مرحب ومنتقد. فالوزير التركي يزور المكان بهدف وضع اللمسات الأخيرة على التفاهمات التركية السودانية التي أشرف عليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مباشرة في أواخر العام المنصرم خلال زيارته للسودان وهي أول زيارة يقوم بها رئيس تركي للخرطوم.
الاتفاقية التركية السودانية تتضمن وضع سواكن تحت تصرف تركيا لمدة 99 عاما كما يقول الإعلام التركي في إطار صفقة مركز الثقل فيها إعادة ترميم المكان وإحيائه وتحويله إلى مشروع سياحي تجاري يدر الملايين على البلدين . سبب القلق الحقيقي هو ما يقال حول تضمن الاتفاقية موافقة الخرطوم على السماح لتركيا باستخدام الجزيرة لأهداف عسكرية وأمنية . وهنا يبرز ما قاله وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو ليقلق البعض أكثر " تم توقيع اتفاقيات بخصوص أمن البحر الاحمر ، تركيا ستواصل تقديم كل الدعم إلى السودان بهذا الخصوص لأن أنقرة معنية بأمن المنطقة أيضا " .
وصول النفوذ الإستراتيجي التركي إلى نقطة تبعد أكثر من 4 آلاف كلم عن الحدود التركية تغضب دول الجوار وإسرائيل وإيران وربما أميركا وروسيا والصين إذا ما شعرت أنَّ الصفقة تتم على حساب مصالحها . أمّا الغاضبون الحقيقيّون الذين يستعدّون للرد على هذه الخطوة عبر بناء شبكة تفاهمات جديدة في القارة السمراء ومع السودان نفسها فهما السعودية ومصر . لماذا تغضب الخرطوم الرياض والقاهرة بالاقدام على خطوة من هذا النوع ؟
الاتفاقية التركية السودانية تتضمن وضع سواكن تحت تصرف تركيا لمدة 99 عاما كما يقول الإعلام التركي في إطار صفقة مركز الثقل فيها إعادة ترميم المكان وإحيائه
لأنها تردد أنَّ الدولتين وخصوصاً مصر لها أكثر من دور في استهداف نظام البشير وإشعال أزمة دارفور وإيصال الأمور إلى كارثة الدولتين في السودان . تذكر بعض الإخوة المصريين فجأة وبينهم اللواء الدكتور مصطفى كامل قائد قوات الصاعقة المصرية الأسبق، إنّ جزيرة “سواكن” التي خصصتها السودان لتركيا هي أرض مصرية فهل هذا يعني أن القاهرة ستتحرك لاستردادها إذا ما فشلت في قطع الطريق على التفاهمات التركية السودانية ؟
سؤال آخر لماذا تفعل أنقرة ذلك ؟ وها ما يعنينا مباشرة هنا .
حقيقة أولى ، التحرك التركي نحو السودان هو امتداد لإستراتيجيات الانتشار والوجود في القارة السمراء . مقياس عام 2017 يعكس حجم أهمية موقع إفريقيا في السياسة الخارجية التركية : 25 دولة يزورها الرئيس التركي بينها 6 دول إفريقية . مقياس سنة 2016 هو 20 دولة يزورها أردوغان منها 8 دول افريقية . للتذكير فقط تركيا رفعت حجم تبادلها الدبلوماسي مع الدول الافريقية في عقد واحد الى 7 اضعاف .
حقائق أخرى :
- تركيا تعاني من أزمات لا تنتهي مع الكثير من دول المنطقة والعواصم الأوروبية وهي تريد أن لا تحاصر في القارة السمراء هذه المرة .
- وتريد تحييد مخاطر ضرب مشروع نقل الطاقة التركي الروسي عبر خطوط بديلة تفرض عليها وتكون إفريقيا بين بدائلها .
- وتركيا تريد أن تؤثر في التواجد أمام الممرات المائية الاستراتيجية في البحر الأحمر والقرن الافريقي لتضمن أن مشاريعها وتفاهماتها في خطط نقل الطاقة لن تتعرض للعرقلة .
- وهي تريد أن تلعب ما تحصل عليه من أوراق إستراتيجية في إفريقيا والسودان والصومال باتجاه توسيع رقعة مصالحها ومنافسة بعض اللاعبين الاقليميين مثل مصر والسعودية في إطار تكتلات بدأت تظهر إلى العلن حول تقاسم النفوذ في الممرات المائية والحركة التجارية .
- التصعيد الاخير في شرق المتوسط حول استكشافات الطاقة واستخراجها مرتبط أيضا بسياسة تركيا للطاقة في العقود الثلاثة المقبلة على أقل تقدير هي لا تريد أن تغامر بالتنسيق مع روسيا دون أن تحمي مصالحها في المناطق المجاورة والتي قد تتحول الى خيارات وبدائل إستراتيجية تهدد كل ما بنته في الاعوام الاخيرة من تفاهمات مع روسيا .
- ما تريده أنقرة وبأسرع ما يكون أيضا هو إنجاز عملية تدمير بنية الكيان الموازي التابع لجماعة غولن المتهم الأول بالمحاولة الانقلابية الأخيرة حيث ما زالت بعض مؤسساته تحت الرعاية الرسمية لبعض الحكومات هناك لذلك هي ستلعب كل ماتملكه من أوراق لإلزام هذه الدول بالقطيعة مع تنظيم تحمله مسؤولية المحاولة الانقلابية الاخيرة .
تركيا هي التي غامرت وفتحت ابوابها للرئيس السوداني قبل أعوام عندما كان يعاني من مطاردة محكمة الجنايات الدولية في موضوع دارفور واستقبلته رغم كل بلاغات الانتربول الدولي بتوقيفه واعتقاله . والبشير يريد أن يرد التحية بأحسن منها عبر سواكن .
أنقرة ومن خلال خطوة من هذا النوع ستتمكن من الجلوس فوق مربع إستراتيجي إقليمي يمنحها المزيد من الثقل والنفوذ بعد اتفاقيتها الامنية والعسكرية مع الصومال وقطر .
مسألة التنظيمات المتشددة في إفريقيا ستكون العقبة الأكبر في المرحلة المقبلة في مسار العلاقات بين العديد من دول القارة الافريقية . تركيا تريد أن تكون في قلب المشهد حتى لا تستخدم هذه التنظيمات ضدها كما حدث في أكثر من مكان وفي العديد من المرات .
تركيا والسعودية ومصر في قلب المواجهة الإفريقية خصوصا في منطقة البحر الاحمر فهل تتغير الأمور بالنسبة للسعودية مع تركيا بعد حادثة الإعلامي خاشقجي ؟
ليست المسألة إذاً عبارة عن الانتقام من التاريخ ومن الإنكليز الذين تسلموا إدارة جزيرة سواكن عام 1882 من العثمانيين بعد أكثر من 350 عاما من الحكم للمنطقة ، ولن يكون الدافع الإنساني والمسؤولية الاخلاقية او الدينية وحدها هي التي تدفع القيادة السياسية التركية للمطالبة بإدارة شؤون الجزيرة لقرن كامل وإنفاق الملايين وربما المليارات على إعادة ترميمها .
كانت جدة أحد الأصدقاء مُنشغلة بالجلوس أمام النافذة المطلة على الشارع تتابع حركة الناس والسيارات وتراقب ما يجري بدقة . وفي المساء أمام طاولة العشاء كانت تقدم تقريرها اليومي وتنقل كل جديد لتبقى هي أيضا عضوا فاعلا في الأسرة . في إحدى المرات وقعت حادثت سطو مسلح على متجر الذهب المقابل للمنزل وحدث اشتباك ناري أسفر عن مقتل اللصوص . في المساء كانت الأسرة تستعرض تفاصيل الحادثة وتطوراتها بإثارة بينما اكتفت الجدة بالمتابعة وسط حالة من الغضب والندم .. لأنها ساعة الحادثة كانت في قيلولة بعد الظهر . من يريد ألا يفوته أي شيء من الإثارة في رصد التحولات في السياسة التركية الاقليمية الجديدة في المرحلة المقبلة عليه أن يتنازل عن قيلولة العصر أيضا .