"بريكس".. امتحان العالم الجديد

2024.11.02 | 06:12 دمشق

بريكس
+A
حجم الخط
-A

لم تعد مراكز القرار والأبحاث الأميركية تتجاهل عمليات التغيير العمودي والأفقي التي تتشكل في العديد من البقع الجغرافية والاقتصادية في العالم، أو تتشبث بمقولة قدرة واشنطن على مواجهة محاولات بناء نظام عالمي جديد بعيداً عما تقول وتريد.

فجرت الحرب الروسية الأوكرانية ومسارها السياسي والعسكري والاقتصادي حتى اليوم نقاشاً جديداً حول مصداقية النظام العالمي. فهل يمكن أن تصبح بريكس بديلاً جديداً على الساحة الدولية؟

تعوّل روسيا والصين، رغم تشكيلة الدول المتنوعة التي التحقت بمنصة بريكس ورغم التباعد في أجنداتها السياسية والأمنية، على لعب دور يوفر لها حماية مصالحها بمعزل عن المحاصرة الأميركية الإقليمية. فهل سيكون بمقدور المجموعة التحول إلى فاعل دولي قوي، خاصة بسبب الخلافات بين أعضائها، مثل الهند والصين اللتين تعانيان من نزاعات حدودية، بالإضافة إلى تضارب المصالح بين الأعضاء الآخرين؟ وهل يعني ذلك أن المنظومة الجديدة ستتمكن من اختراق النظام الاقتصادي العالمي بقيادة مجموعة السبع؟

كانت أميركا تراهن أكثر على سيناريوهات التفكك والشرذمة داخل منظومة "بريكس" بسبب تضارب المصالح وتعقيدات التوازنات والحسابات المتباعدة بين الدول الأعضاء، فوجدت نفسها تواجه تكتلاً يكبر ويتمدد. الخوف هو زيادة عدد الدول الأعضاء المؤثرة في التجارة والأمن الإقليمي والدولي تحت سقف هذا التكتل، الذي قد يقلب المعادلات والتوازنات القائمة لصالح ولادة منظومة بديلة تحدد مسار ومصير العالم الجديد، وتخترق أسس الأحادية القطبية الأميركية وتدعم بروز معالم التعددية القطبية الحديثة في السياسة والاقتصاد.

تدرك واشنطن أنه عليها تحمل ارتدادات سياساتها ومواقفها في التعامل مع ملفات إقليمية ودولية عديدة سهلت للتكتل الشرقي مواصلة صعوده على أكتاف بعض الحلفاء، لكنها تستقوي برهانها على صعوبة تغيير الاستراتيجيات واستحالة مغامرة بعضهم في الانفتاح أكثر فأكثر على موسكو وبكين. من التحق بمنصة بريكس العام المنصرم ومن يريد الانتساب قد يساعدها على تغيير رأيها ربما.

يقلق أميركا وأوروبا احتمال رفع تركيا لمستوى علاقاتها السياسية والاقتصادية مع "أباطرة الشرق" مثل روسيا والصين داخل تكتل بريكس. فالحليف والشريك الغربي الذي أخذ تركيا إلى جناح التنسيق العسكري في الأطلسي منذ 7 عقود، يتردد ويناور لناحية عدم اندماجها في الاتحاد الأوروبي رغم مرور 6 عقود على طلبها. أبسط التوقعات تتحدث عن احتمال وصول أرقام التبادل التجاري التركي مع العملاقين الروسي والصيني إلى 150 مليار دولار خلال السنوات الخمس القادمة مثلاً.

إذا لم تتحرك أميركا سريعاً بعد الانتخابات الرئاسية لمعالجة ما ينتظرها من قضايا سياسية وأمنية واقتصادية في الإقليم، فهي ستجد نفسها أمام مأزق زحف بريكس بثقله البشري والجغرافي والاقتصادي نحو الحدائق الخلفية التي تراهن على ولائها والتزامها بما تقول وتريد. فورطة أميركا استراتيجياً ستكون عند تراجع نفوذها في لعبة التوازنات الإقليمية مع التحاق العديد من الدول العربية الفاعلة والغنية والمقربة منها بالمجموعة مثل مصر والإمارات وربما السعودية لاحقاً، ثم عند دخول اللاعب الأرجنتيني القوي في أميركا الجنوبية بعد الإثيوبي المؤثر في القارة السمراء.

تدعم استمرارية الحرب في القرم التي بدأت قبل عامين سيناريو احتمال بناء اصطفافات سياسية واقتصادية وأمنية جديدة، رغم انتقاد معظم دول العالم لغزو روسيا للأراضي الأوكرانية. حالة مشابهة سبقت ذلك في أواخر الثمانينيات مع الإعلان عن نهاية نظام الثنائية القطبية، لكنها وصلت إلى طريق مسدود بعد أعوام قليلة فقط، مع استرداد روسيا لثقلها ونفوذها، ودخول الصين على خط المواجهة، ومسارعة أوروبا إلى إعلان تواجدها في ساحة المنافسة الدولية بعيداً عن أميركا.

تتحمل واشنطن مسؤولية كبيرة في إيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم بعد انتهاج سياسة التوسع في أوروبا الشرقية ومحاولة الدخول إلى عمق البحر الأسود ومحاولة تحييد وإضعاف نفوذ موسكو في هذه الأماكن، ووصول خطة الاحتواء الروسي إلى طريق مسدود. لكن فشلها الأكبر كان في اعتماد قراءة صحيحة حول التوسع الصيني وأهدافه، مكتفية بالتوقف عند العامل الاقتصادي ومتجاهلة حسابات بكين السياسية والعسكرية. فالحصيلة كانت التقارب والتنسيق الروسي الصيني المتزايد في الأعوام الأخيرة، وعجزها هي عن تجييش التكتل الدولي خلفها للعب ورقة أوكرانيا ضد روسيا.

نجحت روسيا من خلال تنظيم قمة مجموعة دول بريكس وبمشاركة أكثر من 30 دولة، في تمرير رسالتها الاستراتيجية بأنها ليست معزولة وليست لوحدها، وأن الغرب لن يستطيع أن يفرض عليها ما يريده في ملف القرم، وأن التعددية القطبية صاعدة في العالم الحديث. لكن سيناريوهات الاصطفافات الدولية الجديدة ومسارها، خصوصاً بالنسبة لبريكس، ستبقى متوقفة على قدرة دمج السياسات المالية والاقتصادية ومعالجة المشاكل السياسية والأمنية بين الدول الأعضاء. هذا إلى جانب أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد يكون أخذ مكانه في الصورة التذكارية لقمة مجموعة دول بريكس في قازان الروسية، لكنه لم يحظَ بمفاجأة دعوة تركيا للانضمام إلى هذه المنظومة كما كان متوقعاً.

مرة أخرى تلتقي معظم المواقف والآراء عند قناعة أن المتغيرات الدولية الحاصلة اليوم تفرض على الدول الفاعلة والمؤثرة مراجعة مواقفها وسياساتها وربما تحالفاتها، وأن لعبة التوازنات الدولية الجديدة تذهب باتجاه بناء نمط جديد من المنافسة التي قد تتحول في كل لحظة إلى مواجهة وصراع مباشر على المصالح. ومرة أخرى شرعت الدول المتوسطة الحجم في البحث عن البراغماتية والليونة في رسم سياساتها لضمان مصالحها وسط الشد والجذب الإقليمي والدولي الحاصل، وهو ما يتطلب التكيف مع المتغيرات أو الجلوس في مدرجات المتفرجين.

يرى الدبلوماسي الأميركي هنري كيسنجر أن "النظام العالمي يواجه تحولاً جذرياً مع تزايد التنافس بين القوى الكبرى وظهور قوى إقليمية مؤثرة، مما يجعل الأمور أكثر تعقيداً".

ما لم يقله كيسنجر هو أن استمرار هذه المواجهة يهدد الاستقرار العالمي ويضع النظام الدولي في مرحلة من عدم اليقين. وهو ما دفع بالدبلوماسي الشهير زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، ربما للقول في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى" أن هذا التنافس ليس مجرد سباق على الموارد، بل يمثل اختلافاً جوهرياً في النماذج السياسية والاقتصادية.