يبحث كثير من المتابعين في أسباب الهجمات التي تنفذها إيران بشكل مباشر في اتجاه أكثر من مكان في العراق وسوريا وباكستان، وبشكل غير مباشر عبر وكلاء وشركاء لها في البحر الأحمر وجنوبي لبنان.
تصعد طهران ضد إسرائيل لكنها تبقي حصة العديد من الدول والعواصم قائمة. استهداف أربيل إيرانيا مهم بالنسبة لإسرائيل، واستهداف إدلب مهم بالنسبة لتركيا وروسيا، واستهداف باكستان مهم بالنسبة لأميركا. فكيف ستقاوم طهران التصعيد ضدها على كل هذه الجبهات أم هي تستفيد من حالة التباعد والتشرذم والتوتر بين هذه الأطراف واستحالة توحدها والتقاء مصالحها ضدها؟
تعاني طهران من ضربات موجعة تلقتها على أكثر من جبهة. اغتيالات وتصفيات واستهداف مباشر لقياداتها ونفوذها داخل إيران وخارجها، ولا يمكن لها أن تلتزم الصمت وعدم الرد. لكنها تدرك أيضا أن الرد ينبغي أن يكون مدروسا وأن لا يبتعد عن شعار "الصبر الاستراتيجي" والاكتفاء بعرض العضلات وتوجيه رسائل سياسية وأمنية واقتصادية أكثر مما هي محاربة التنظيمات الإرهابية في إدلب وعلى الحدود مع الجارة الباكستانية كما تقول.
لماذا تغامر إيران في التسبب بشرخ علاقاتها مع دول المنطقة أكثر مما هي عليه؟
تستخدم طهران أذرعها الإقليمية عند اللزوم وتتحرك بشكل مباشر عند الضرورة.
تريد من الوكلاء المحليين أن يحاربوا نيابة عنها في مكان كما يحدث اليوم في لبنان وسوريا واليمن والعراق، وتتدخل هي في المواجهات الإقليمية الصعبة التي تستدعي ذلك كما يحدث على الحدود الإيرانية الباكستانية. لماذا أقحمت إيران باكستان في لعبتها الإقليمية وفي هذه الآونة تحديدا؟ لأن الجميع في ساحة لعب أمنية سياسية اقتصادية واحدة. ولأن ما يجري يندرج في إطار محاولة خلط أوراق المشهد في غزة والبحر الأحمر وشرقي المتوسط والدليل هو الحشود العسكرية الأميركية الأوروبية الروسية الصينية في المنطقة.
هدف طهران عبر تحريك ورقة البحر الأحمر هو أبعد من محاولة تمرير رسائل ضغط على تل أبيب، بقدر ما هو محاولة التذكير بنفوذها وحصتها هناك
قد يكون فتح الطريق أمام المواجهة التركية الإيرانية وتخفيف الأعباء عن إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة والاصطفاف الإقليمي والدولي ضدها بين الأهداف الغربية في لعبة التوازنات الجديدة. لكن تحذيرات وتهديدات أنقرة للسليمانية في الآونة الأخيرة، تعني كذلك إيران التي تنسق مع بافل طالباني وتوفر له الحماية والدعم في مواجهة أربيل وقياداتها المنفتحة على تركيا. تتحمل طهران المسؤولية الكبيرة بسبب قبول مهمة مواجهة تركيا في المنطقة بقرار غربي إسرائيلي، خصوصا وأن هناك شبه إجماع على وجود تفاهمات إيرانية إسرائيلية حول حدود التصعيد والشحن في الملفات الخلافية بينهما.
تستمد طهران قوتها من التصعيد الإسرائيلي. وتستفيد تل أبيب إلى أبعد الحدود من التصعيد الإيراني. "شيلني أشيلك". هدف طهران عبر تحريك ورقة البحر الأحمر هو أبعد من محاولة تمرير رسائل ضغط على تل أبيب، بقدر ما هو محاولة التذكير بنفوذها وحصتها هناك التي لن ترضى أن تهدر أو تتحول إلى مساومات إقليمية على حسابها.
ترحيب الصحف الإيرانية الأكثر انتشارا والمقربة من السلطة الحاكمة بالهجمات الأخيرة واعتبارها شكلا من أشكال الانتقام "الذي سبق أن توعدت به طهران". إلى جانب التبريرات التي يسوقها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان حول أن هجمات الأيام الماضية هي بمنزلة عمليات رد محدود لا علاقة لها بالوضع في غزة، "لكنها تتضمن رسائل مباشرة لإسرائيل والمجموعات الإرهابية التي تهدد الأمن القومي الإيراني"، لا يمكن أن تغفل حاجة إيران إلى تحرك إقليمي من هذا النوع باتجاه الداخل الذي يعاني من موجات احتجاج اجتماعي اقتصادي إصلاحي يقود إلى انفجار الشارع بين الحين والآخر.
تحدث دبلوماسي مصري عن زيارة مرتقبة لوزير الخارجية الإيراني إلى القاهرة لبحث تطورات الوضع في البحر الأحمر. مصادر مصرية تتحدث أيضا عن "اتصالات مكثفة أجرتها القاهرة مع مسؤولين في جماعة الحوثيين وإيران، لمنع اتساع تأثير الهجمات الحوثية على التوازنات الحساسة القائمة في البحر الأحمر وحركة المرور في قناة السويس على وجه الخصوص. هناك من يردد في العاصمة المصرية أيضا أن القاهرة أكدت للإدارة الأميركية خطورة سيناريو الحسم العسكري في باب المندب، وأنه من الأفضل الدفع نحو حل يعجل بإنهاء السبب الرئيسي، وهو الحرب الدائرة في قطاع غزة. هناك من يردد أيضا أنه بين التطمينات التي قدمها المسؤولون في القاهرة لجماعة الحوثي، التقدم الملموس في المباحثات الجارية مع الجانب الإسرائيلي لزيادة حجم المساعدات التي تمر لقطاع غزة كتسوية ترضي أكثر من طرف. مصر حريصة على حماية مصالحها وإبعاد التوتر عن المناطق التي تشكل حديقتها الخلفية، لكن رغبة القاهرة بالتهدئة قد تخدم الحسابات الإيرانية الإسرائيلية دون علم الجانب المصري. ما الذي كانت تريده طهران أو تحلم به أكثر من ذلك؟
لو كانت إيران جادة فيما أعلنته حول قرار الدخول في المواجهات المباشرة لما فرطت بأكثر من فرصة سانحة منحتها تل أبيب وواشنطن لها في الأعوام الأخيرة وهي لا تقل أهمية وقيمة عن الفرص القائمة اليوم.
لا تقود الهجمات الإيرانية في أربيل وإدلب والبحر الأحمر وباكستان إلى قناعة أن طهران قررت تبديل طريقة تعاملها مع الملفات الإقليمية الأمنية التي تعنيها، ولا تدفع باتجاه استنتاج أن الحرس الثوري الإيراني والميليشيات المحسوبة عليه وتتحرك باسمه في المنطقة، قررت تبديل أسلوب المواجهة من الخلف إلى الأمام. فلا طهران راغبة بذلك ولا واشنطن وتل أبيب أيضا.
ما يبعد كثير من هذه السيناريوهات هو احتمال حدوث تحرك أميركي إسرائيلي عسكري مباشر ضد إيران وقواعدها في المنطقة، وهو خارج التوقعات في هذه الآونة أيضا. إلا إذا صحت تنبؤات رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني السابق، حشمت فلاحت بيشه، الذي يرى أن مجمل التطورات الأخيرة يسير في الاتجاه الذي يريده نتنياهو والمتطرفون الإسرائيليون. "نتنياهو سيحوّل موضوع الحرب مع إيران إلى قضية انتخابية، وفي حال أصبح ترامب منافسا لبايدن فإن الديمقراطيين حينذاك لن يكتفوا بحرب محدودة مع إيران، لأنهم إذا لم يخوضوا الحرب معها فإن ترامب سيكون هو الفائز".
تبحث طهران عن فرص ووسائل تعطيها ما تريده من الغرب وإسرائيل والعديد من اللاعبين الإقليميين عبر التهديد بإشعال الجبهات وتفجير الإقليم دون المضي وراء خطوة تنفيذ ذلك
يقول المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني إن طهران تحترم سيادة الدول الأخرى ووحدة أراضيها، لكنها في الوقت نفسه تستخدم "حقها المشروع والقانوني لردع تهديدات الأمن القومي". ويقول الإعلامي اللبناني أيمن جزيني "منذ عام 1979 ونحن ننتظر ونترقّب. لا الشيطانان أزاحا نظام الملالي، ولا الأخيرون طردوا الشيطانَين، أو "طهّروا" المنطقة منهما". تبحث طهران عن فرص ووسائل تعطيها ما تريده من الغرب وإسرائيل والعديد من اللاعبين الإقليميين عبر التهديد بإشعال الجبهات وتفجير الإقليم دون المضي وراء خطوة تنفيذ ذلك.
شكلت الحكومة العراقية وفداً برئاسة مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي لزيارة أربيل والاطلاع على الخسائر التى ألحقتها الضربات الإيرانية بتلك المناطق؛ حيث أكد الأعرجي أن "ادعاءات استهداف مقر للموساد في أربيل لا أساس لها من الصحة"، وأن الأهداف التى ضربتها إيران هى أهداف مدنية وليست عسكرية أو استخبارية. يبدو حتى الآن أن أبرز نتائج الهجمات الإيرانية على العديد من الأماكن والمناطق المحسوبة على أميركا في المنطقة هي إثبات انهيار استراتيجية بايدن وفريق عمله في الشرق الأوسط لا أكثر.