مرسوم العفو الذي أصدره رأس النظام في دمشق، استثنى كالعادة المعتقلين السياسيين، وركز على إطلاق سراح مرتكبي الجنايات والمخالفات المرورية والعفو عن الفارين من الخدمة العسكرية.
وهذا الإغفال لقضية المعارضين للنظام، أو المعتقلين على شبهات سياسية، في هذا المرسوم، كما في المراسيم التي سبقت والتي تصدر بين حين وآخر منذ عشر سنوات، يشير إلى أن النظام لا يتعامل مع قضية المعتقلين السياسيين بوصفها قضية حقوقية أو حتى إنسانية، بل كورقة سياسية واجتماعية، يتوخى منها تحقيق أهداف عدة:
- إرهاب المجتمع السوري، وردع أية محاولة فردية أو جماعية للخروج عن بيت الطاعة، لأن مصير من يخرج سيكون الاختفاء وراء الشمس إلى أمد غير معلوم، وقد يكون للأبد، أو يخرج معلولا مشوها، غير قادر غالبا على مواصلة حياته بصورة طبيعية.
- تحطيم مجتمع المعارضة نفسيا، حيث يدرك النظام مدى حساسية قضية الاعتقال بالنسبة للأسر السورية، ولكل الأسر في العالم، من ناحية شل تفكير الأسرة، وزجرها عن القيام بأي تحرك ضد النظام، وجعلها تعيش في دوامة مستمرة، خاصة إذا كان المعتقل امرأة أو قاصراً، بما يعني في المحصلة، معاقبة الأسرة كلها أيضا بالتوازي مع معاقبة ابنها المعتقل.
- التعامل مع المعتقلين كرهائن لدى النظام، ومع قضيتهم كورقة سياسية، يمكن للنظام المساومة بها في أية استحقاقات سياسية مقبلة. أي إمكانية إطلاق المعتقلين، أو بعضهم مقابل أثمان سياسية، تتصل ببقائه أو التسامح مع جرائمه.
- ابتزاز أهالي المعتقلين ماديا، والتعامل معهم كبقرة حلوب مقابل أية معلومات عن ابنهم المعتقل، وتصل المدفوعات أحيانا لآلاف الدولارات، وغالبا ما يكون ذلك مقابل الأوهام، أو الوعود الكاذبة.
يضاف إلى ذلك، وجود نزعات من الحقد لدى دوائر نافذة في النظام، تقوم على تفكير انتقامي، ينظر إلى قطاعات واسعة من الشعب السوري كفئات مستباحة، بوصفهم أعداء بالفطرة للنظام، ولا ضير بالتالي من معاقبتهم جماعيا كلما سنحت الفرصة، والاعتقال بوصفه فعلا قسريا يتم تحت ذرائع أمنية، هو أحد أبرز الميادين لهذا العقاب الجماعي الذي قد يشتمل على ميادين أخرى مثل حرمان مناطق معينة من التيار الكهربائي أو تزويدهم بها بدرجة أقل من الآخرين، وكذلك الخدمات الأساسية الأخرى بما في ذلك الوظائف العامة.. الخ وكل ذلك على أساس طائفي.
وانطلاقا من هذا التحليل الذي في زعمنا هو أقرب للصحة، فإن النظام لن يفرج عن المعتقلين السياسيين، حتى الذين يعلم تماما أنهم غير ضالعين في أية أنشطة مناوئة له، بناء على محاججات حقوقية أو قانونية ولا بناء على مبادرات أو مفاوضات سياسية، لأنه لا يعير هذه المسائل أي اعتبار، بل السبيل الوحيد للتعامل مع هذه القضية، هو تصديرها إلى واجهة الاهتمام الدولي، بما يولد موقفا حقوقيا دوليا مسنوداً سياسيا على أعلى مستوى، يقايض النظام في قضايا أساسية بالنسبة لمصيره ومستقبله. قد يكون ذلك في إطار صفقة سياسية شاملة تتدخل فيها روسيا كضامن للنظام، أو في إطار موقف ضعف شديد من النظام حين يتلمس السلامة الشخصية لأفراده مقابل إطلاق سراح المعتقلين، وهذا غير وارد ضمن المعطيات الحالية.
إن أجهزة الأمن هي الركن الأساسي لنظام مثل ذلك القائم في سوريا، وبدونها سيغدو النظام بلا أسنان، ويفقد سطوته أمام المجتمع المحلي، وبالتالي فإن هذه الأجهزة لن تقبل إطلاق سراح المعتقلين نتيجة ضغوط سياسية، لأن هؤلاء المعتقلين سيتحولون إلى شهود إدانة لهذه الأجهزة، وللنظام كله، لذلك من المستحسن بالنسبة لها أن يموتوا في السجون، أو يكون إطلاق من تبقى منهم ضمن صفقة شاملة تتضمن عدم ملاحقة قادة الأجهزة الأمنية، وأركان النظام.
كما لا ينبغي التعويل على روسيا للمساعدة في إطلاق سراح المعتقلين، لأن روسيا تفكيرها ليس بعيدا عن تفكير النظام، وتتقاطع معه في كثير من النقاط الآنفة، فضلا عن أنها في الأساس دولة لا تقيم وزنا لمعايير حقوق الانسان.
وعليه، فان الجهد الأساسي في قضية المعتقلين السياسيين المقدر عددهم وفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان بنحو 130 ألف معتقل موثق، يجب أن يتوجه إلى المنابر الحقوقية والسياسية الدولية بغية إبقاء هذه القضية في صدارة الاهتمام الدولي، لممارسة نوع من الضغط على النظام كي لا يتمادى في استغلال "ورقة" المعتقلين، فضلا عن ضرورة الاشتغال أكثر على قضية توثيق جرائم النظام بشكل مهني، بانتظار يوم تتحقق فيه العدالة، ويمثل فيه المجرمون أمام المحاكم الدولية.