مضى خمسة عشر عاماً منذ أن غزت المسلسلات التركية المدبلجة شاشات الفضائيات العربية. ذلك الغزو الثقافي كان له أثر كبير على تطوير الذائقة العامة للجمهور العربي، كما كان له تأثير بدوره على تطوّر صناعة الدراما العربية بشكلٍ ملحوظ؛ فكان أبرز ثماره موجة المسلسلات العربية المشتركة أو "العرب بان"، التي تعتمد على ممثلين من أقطار عربية مختلفة لتضمن الانتشار على نطاق واسع، وتجمعهم في بيئة هجينة عن الواقع؛ بيئة واقعية فائقة، تصور لنا الحياة كما في الإعلانات؛ فأبطال هذه المسلسلات هم دائماً من طبقة الذوات والنبلاء وأصحاب المليارات، يعيشون في قصور ويملكون سيارات فارهة ويخوت وطائرات خاصة أحياناً. فعلياً تم إعداد هذه المسلسلات بأسلوب يناسب ذائقة الجمهور الذين أحبوا المسلسلات المدبلجة، والذين يهربون بمتابعة الدراما من بؤس الحكايات الواقعية إلى واقع آخر فائق يتمنون أن يعيشوا فيه.
اكتسح هذا النوع من المسلسلات سوق الدراما العربية خلال الأعوام الأخيرة، ويمكن أن نقول إنه نجح تجارياً وجماهيرياً لكنه فشل نقدياً. ففي رصيد الصحافة العربية مئات المقالات النقدية التي انتقدت موجة "العرب بان" بالمجمل، ناهيك عن المقالات التي تغالي بانتقاد كل مسلسل منها على حدا. لا يمكن القول إن تلك المقالات ليست محقة، لكن نسبة كبيرة منها ينتقد هذا النوع من الأعمال دون فهمه، فيوجه تهماً مثل "اللا واقعية" أو أنها "مستوحاة من مسلسلات أجنبية"، دون إدراك أن هذه السمات هي لا تعتبر نقيصة في هذا النوع من المسلسلات، بل هي من سماته الأصلية. والغريب هنا أيضاً، أن ذات الأقلام التي غالت بنقد الدراما العربية المشتركة المستوحاة من أعمال أجنبية، تغالي أيضاً بمديح المسرحيات المترجمة التي تعرض على المسارح العربية! ليعبر ذلك عن فصام الصحافة العربية ما بين تعاطيها مع الفن النخبوي والفن الشعبي.
أما الانتقادات التي تشير إلى الجوانب اللا واقعية وتنتقد تركيز هذا النوع من الدراما على شخصيات النبلاء والذوات، فهي انتقادات تعبر عن ذائقة أصحابها، الذين يفضلون الواقعية على أي نوع آخر، ويحكمون على نجاح أي عمل بمدى قدرته على نقل الواقع. ربما لا يدرك أصحاب هذا التوجه أن التراجيديا الإغريقية لم تتناول مأساة أشخاص من الواقع حينها، بل كانت تجسد حكايات لأساطير أنصاف الآلهة والنبلاء. ذلك هو الحال في مسرح شكسبير وفي الكلاسيكية الفرنسية الحديثة، فتلك المسرحيات جميعاً تجسد حكايات الملوك والنبلاء وشخصيات فائقة، ولم يكن يحضر الإنسان العادي فيها سوى في مساحات هامشية ضيقة لخلق الكوميديا. لذا فإن هذا النوع من الانتقادات لا يمكن النظر إليه سوى بوصفه نقد متحيز للنوع، مثله كمثل عاشق موسيقى الروك، الذي يحكم فوراً على أي أغنية بوب بأنها رديئة لأنها لا تتوافق مع ذائقته.
منذ أن بدأت موجة الدراما العربية المشتركة، أنتجت العديد من المسلسلات التي تستحق الإشادة، والتي تمكنت من استثمار الشروط الظرفية لهذا النوع من المسلسلات لمناقشة أفكار وقضايا هامة؛ فناقش مسلسل "تشيللو" (2015) مفاهيم الأفلام الوثائقية وآلية عملها، ليطرح السؤال: من يملك الحكاية؟ كما ناقش مسلسل "أولاد آدم" (2020) قضية استحالة الوصول لحكم أخلاقي دون انتهاك معايير الخصوصية؛ لتؤكد هذه المسلسلات وغيرها، أن ما يعرض على الشاشة في هذه الظروف الهجينة من الممكن أن تطرح أفكار هامة. لكن جميع المسلسلات السابقة كانت تحتوي على كم كبير من الثغرات والعيوب الدرامية التي تصعّب من مهمة الدفاع عنها، إلى أن عُرض مسلسل "للموت" هذه السنة، الذي من الممكن وصفه بأنه أفضل مسلسلات الدراما العربية المشتركة منذ نشأتها وأكثرها اكتمالاً.
مسلسل "للموت"، حاله كحال جميع المسلسلات التي تنتمي لذات الفئة، تتمحور حكايته الرئيسية حول الذوات وأصحاب الملايين؛ لكنه يتفوق على جميع المسلسلات التي تنتمي لذات الفئة لعدة أسباب:
-
عوالم المنفصلة يمكن اختراقها:
إن المسلسل يدور حول فتاتين نشأتا في الميتم وأسستا بعد الخروج منه لعملٍ أسود، حيث تقومان معاً بنصب الأفخاخ العاطفية لرجال الذوات. يبدأ المسلسل أثناء قيامهما بعملية نصب روتينية، تقوم إحداهما بتعطيل العملية بعد أن تقع بحب الضحية. ذلك يؤدي إلى إعلان حرب باردة بين أفراد العصابة المنفصلة تلعب في أروقة قصر النبلاء الذي تم اختراقه. يؤدي هذا الخلل باللعبة إلى خلق عالمين دراميين، الأول هو فائق، مصطنع ومزيف، يشبه كل العوالم الدرامية التي ينتظرها جمهور هذا النوع، وفيه تدور الحوارات حول الحب والمشاعر الإنسانية بعد أن يتم تصعيدها فوق الحاجات المادية. أما العالم الثاني فهو نتاج تزييف المزيف، إذ تم إنتاجه ضمن ذات الفضاء بعد أن اخترقته من قبل شخصيات مزيفة لا تنتمي إليه، لترسم بحضورها بعداً أكثر إنسانية ضمن البرج العاجي البارد.
-
هوامش غنية تعكس صورة عن الواقع:
لا يعتبر مسلسل "للموت" أول المسلسلات العربية المشتركة التي تستغل الهوامش وشخصيات العمال والخدم لتعكس من خلالها صورة عن الواقع، لكن "للموت" هو أكثر من نجح بذلك. فعلى الرغم من أن المسلسل يحافظ على الحيادية حتى في أسماء المناطق والعوالم، ليكتفي بكلمة "الحي" للدلالة على الطبقات الفقيرة والمعدومة ويكتفي بكلمة "الجبل" للدلالة على أماكن طبقات الذوات؛ إلا أنه يتمكن من خلال مشاهد الحي أن ينقل صورة صادقة عن معاناة الشارع في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان، وهو يختلف تماماً عن مسلسلات "2020" و"الهيبة" و"لا حكم عليه" وغيرها من المسلسلات المشتركة التي لمعت في هوامشها صورة الأمن اللبناني، حيث إن "للموت" ينقل من خلال صوت الناس في الهوامش صورة أكثر مصداقية عن الواقع، يمكن أن نلتمسها في مشهد التحقيق مع "محمود" الذي سرق سيارة ليشتري جهازا طبيا لأبيه المريض، والذي ينفجر بوجه المحقق ليطالبه بتصحيح مسار الدولة ومحاسبة الحرامية الكبار قبل محاسبته.
-
اللغة المتناغمة:
في الإعلام السوري البديل، هناك توجه سائد ينتقد اختلاط اللغات ما بين السورية واللبنانية في الدراما المشتركة، لتكون مدخلاً لانتقاد كل ممثل غير سوري يشارك في المسلسلات العربية المشتركة ويطالب دائماً بالتركيز على الممثلين السوريين والدراما السورية الصرفة. بالطبع لا يمكن تبني هذا الرأي الذي يحمل في طياته نزعة قبلية تصل إلى حد العنصرية، كما لا يمكن تقبل فكرة جودة الأداء العرقية والتفوق الفني السوري. لكن بالمقابل يجب أن نشير إلى أن أكبر مشكلة تعاني منها الدراما العربية المشتركة بالفعل هي مشكلة اللغات المختلطة ضمن البيئة الواحدة، حيث يتم تبرير اختلاف لغة الشخصية من خلال نسبها، حيث يتم تبرير وجود شخص يتكلم باللهجة السورية ضمن ضيعة أو حي لبناني من خلال الإشارة إلى أنه "ابن السوري" أو "ابن السورية"، وكأن اللغة هي مسألة جينية!
في مسلسل "للموت" لا يتم نسج عالم من المفترض أنه منسجم بلغات مختلفة؛ بل إن كل عائلة لها لغتها وتعابيرها المشتركة. حتى أن العائلة السورية "النبيلة" لا تتحدث بلغة شامية ثقيلة، هي لغة خفيفة تكسرها بعض التعابير اللبنانية البسيطة، وهو أمر مبرر بحكم المناخ الاجتماعي الذي تعيش فيه.
-
مشاهد ما قبل الشارة:
ويبقى أجمل ما في المسلسل هو المشاهد التي يتم تصويرها ما قبل الشارة لتعطينا لمحة سريعة عن الماضي قبل الانتقال إلى الزمن الحاضر. إننا هنا نكون فكرة كاملة عن الشخصيات دون أن يقوم المخرج فيليب أسمر بالتلاعب بالخطوط الزمنية بشكل غير مدروس كما يحدث في الدراما العربية عادةً، ونشاهد جزءاً من شريط الذكريات دون أن تتكرر مشاهد تابعناها في الحلقات الأولى كما كان يحدث في الدراما العربية أيضاً؛ بل على العكس من ذلك، تم إسناد المهمة إلى مخرج آخر، بهاء خداج، الذي أعطى روحاً إضافية لهذه المشاهد وللشارة أيضاً.
بعد كل ذلك، ألا توجد أي هفوات وأخطاء درامية في مسلسل "للموت"؟
كل ما ذكرناه من نقاط إيجابية لا ينكر بدوره وجود بعض الهفوات والأخطاء في بنية المسلسل، منها مثلاً: أن المكانة التي يحتلها "عمر" (عضو مساعد في العصابة) في علاقته مع "هادي" و"باسل" (الضحايا الجدد) هي غير منطقية البتة، إذا ما صادقنا على أن عملية النصب الحالية هي عملية نصب روتينية لم يكن من المفترض أن تستغرق أكثر من ستة أشهر؛ فلا يمكن تفسير المكانة التي وصل إليها "عمر" بهذا الزمن أو حتى ضعفه لدى الأخوين، وخصوصاً "باسل" الذي غاب لفترة طويلة.
وهناك أيضاً العديد من الأخطاء المماثلة في بنية المسلسل، لكن وجودها لم يترك أثراً سلبياً كبيراً، ولم ينغص على الإيجابيات الكبيرة في المسلسل.