لم يكد يمر يوم في النصف الثاني من العام 2012 من دون الحديث عن انتصارات ومعارك تحرير الثكنات العسكرية أو الحواجز، يرافقها هزائم كبيرة لقوات النظام. أيام لا تنسى كان التنافس فيها على أشده بين الفصائل، لا على معابر أو تجارة أو نفوذ، بل على تحقيق الانتصارات في معارك عز وفخر لابد أن تسطرها صفحات التاريخ.
لم تمضِ أيام قليلة على تحرير الفوج 46 قوات خاصة في 18 تشرين الثاني 2012، في ريف حلب الغربي، حتى أعلن أبطال الريف الشمالي عن بدء معركة تحرير كلية المشاة والقطعات العسكرية الملحقة بها، الواقعة في منطقة المسلمية شمال حلب، التي كانت معسكراً كبيراً محصناً، أذاقت سكان الريف الشمالي الويلات، من قصف وتدمير، وكانت عائقاً يحول دون وصول سريع وسهل لمقاتلي الريف الشمالي إلى المدينة.
تم تكليف المقدم أبو الفرات بمهمة قيادة المعركة والتخطيط لها، كيف لا وهو القائد المقدام، المشهود له بشجاعته وخبرته العسكرية وحنكته في قيادة المعارك
كانت البداية في معبر باب السلامة ونحن نتناول طعام الغداء أنا والشهيدان حجي مارع وأبو الفرات، حيث تم تكليف المقدم أبو الفرات بمهمة قيادة المعركة والتخطيط لها، كيف لا وهو القائد المقدام، المشهود له بشجاعته وخبرته العسكرية وحنكته في قيادة المعارك، خاصة في مدينة الباب، وساحات صلاح الدين وسيف الدولة وشوارع حلب وأزقتها، التي كان له فيها صولات وجولات.
ورغم إيمانه كما كان يقول: "إن النصر لا يأتي بالطائرة ولا بالدبابة ولا بالصاروخ، إنما بالإيمان والعزيمة وعدالة القضية التي نقاتل من أجلها"، لكن هذا لم يجعله متواكلاً، بل وضع خطة عسكرية محكمة واختار معه ثلة من الأبطال ليساعدوه في قيادة المعركة، كان أبرزهم يوسف عباس (أبو الطيب)، المقدم محمد حمادين، الملازم أول أحمد طلاس (أبو يزن)، عمر بيانوني، حسين عساف، وآخرين كلوجستيين ومنسقين، منهم الشهيد عدنان بكور (أبو حاتم)، محمد حاج علي (أبو الفضل)، عماد ديمان، أبو أحمد نور.
تم اختيار اسماً للمعركة (ثوار الخنادق) في رسالة ثورية، وتحفيزية للمعارضة السياسية القابعة في إسطنبول لتكون بمستوى الحدث والتضحيات.
خطة المعركة التي انطلقت في أواخر شهر تشرين الثاني، كانت تقتضي أولاً تحرير نقاط الحماية المحيطة بالكلية، وهي سجن الأحداث، المنطقة الحرة، معمل الزجاج والمصابيح، مدرسة الزراعة، مدرسة الرواد، قرية بابنس، المبقرة، قرية فافين وحقل الرمي، هذه المناطق التي تعتبر في العلم العسكري مخافر حراسة إنذارية، حيث تم تحديد محاور القتال، وتقسيم القطاعات بين الفصائل المشاركة، وكانت في البداية بين التشكيلين الأكبر في الريف الشمالي، لواء التوحيد ولواء الفتح، وبمشاركة لواء أحرار حلفايا التابع للواء التوحيد، بقيادة سامي رحمون (أبو العلمين)، وتعيين قادة لتلك القطاعات وإسناد المهام لهم، وكان من أبرز هؤلاء القادة: الشهيد مصطفى فروح (أبو وليد)، أحمد نجار (أبو جعفر)، مضر نجار، النقيب إسماعيل نداف، عبد المنعم قرندل، عبد الله عليطو (أبو حمدان)، فايز الصالح (أبو مسلم)، غسان ناصر(أبو محمود الحر)، الشهيد بديع عباس، نبيل فروح (أبو حسن المهاجر)، محمود محمد عيسى (شامل)، محمد بكور الخطيب، بشير الحجي، محمد عمر النعمة، الشهيد أحمد إبراهيم، الشهيد طارق بيانوني، الشهيد عبد الله ملاح، الشهيد محمد حجازي، محمود دعبول، حمزة عكرمة (الحنش)، فراس عليطو (العكيد)، الشهيد ناصر حاج زكور، حج عبدو سكر.
دارت معارك ضارية على تلك الجبهات استمرت لعدة أيام، أسفرت عن سيطرة الثوار عليها بالكامل، وتضييق الخناق على الكلية ومحاصرتها من جميع الجهات وقطع كل طرق الإمداد عنها.
نتج عن تلك الملاحم مقتل أعداد كبيرة من عناصر النظام وضباطه، وارتقى ثلة من أبطال الجيش الحر في مقدمتهم قائد إحدى مجموعات الاقتحام، النقيب المنشق محمد الحسين، من بلدة المسلمية، عمر نايف، أحمد حسن حاج خليل، الأخ لأربعة شهداء، وآخرون لم تسعفني الذاكرة بتذكر أسمائهم.
كانت خطة قائد العملية إطالة فترة الحصار لإنهاك قوات النظام وتحطيم معنوياتهم، على أمل استسلامهم، حرصاً على أرواح الجميع وعلى العتاد والسلاح، كما كان يتمنى، ولا أحد ينسى كلماته المرصعة بماء الذهب قبيل استشهاده بلحظات: "والله مزعوج.. لأنه هاي الدبابات دباباتنا، وهذا العتاد عتادنا، وهالعناصر أخوتنا.. والله العظيم والله العظيم كل ما أشوف إنسان مقتول منا أو منهم بزعل".. ولكن هيهات هيهات، من نظام مجرم قاتل لا يعرف أي معنى للإنسانية أن يفكر بحياة ضباطه ومقاتليه، فهم وقود الحرب لبقائه على كرسي الحكم المعمد بدماء أبناء الشعب السوري.
خلال فترة الحصار التي دامت لأكثر من أسبوعين، وصلت تعزيزات من فصائل ومجموعات أخرى أهمها لواء أحرار سوريا، الذي كان يملك سلاحاً ثقيلاً غنمه من معركة تحرير حاجز عندان، بقيادة محمود عفش، والشهيد محمد غادة، كتائب رتيان بقيادة الشهيد أحمد إبراهيم، وعلي قوجة (أبو حمص)، كتائب حريتان بقيادة الشهيد وليد حوري، والشهيد عبد السلام زيدان، كتائب بيانون بقيادة طارق بيانوني، كتائب الباز بقيادة الأستاذ محمود حاج حسن، كتائب السلطان محمد الفاتح بقيادة المقدم الشهيد محمد دلة.
بعد تحرير محيط الكلية وخلال عدة أيام أطبق الحصار عليها، وكان تكتيك القوات المهاجمة بالضغط على قوات النظام نهاراً باستهداف تحصيناته وفتح ثغرات في سور الكلية، والتنسيق ليلاً لسحب المنشقين لإفراغ الكلية من كوادرها البشرية، بالإضافة إلى حرمان القوات المحاصرة من الطعام الذي كانت تلقيه لهم الطائرات بالمظلات، مستخدمين التمويه الدخاني عبر إشعال الإطارات، فكانت تسقط المؤن عند الثوار، وبات الجوع يفتك بعناصر النظام مما أدى إلى خور أجسادهم، وانهيار معنوياتهم، وإحداث حالة من الإرباك بين صفوفهم.
كانت محاولات الاقتحام لا تتوقف، والمناوشات بكل أنواع الأسلحة، حيث أحدث الثوار فتحات في سور الكلية يتسللون منها ليلاً ويشتبكون مع قوات النظام، لإفساح المجال لعمليات الانشقاق للضباط والعناصر الذي لم تسنح لهم الفرصة من قبل بسبب القبضة الأمنية، والذين بلغ عددهم 208 منشقيين، بينهم أكثر من 30 ضابطاً، أذكر منهم العميد أحمد السوسي، العميد عبد الله خلف، العقيد كاسر عاصي ((مسيحي)، العقيد إرهاف نداف، العقيد محمد درويش، العقيد محمد شيخ هندي، العقيد حسان قاعي، المقدم زهير إستنبولي، الرائد الشهيد محمد عساف، الرائد عبد الحي عبد الحي (عاد إلى حضن النظام)، الرائد علي الزين (عاد إلى حضن النظام)، الرائد معاوية دللو، النقيب زياد عاصي (مسيحي)، النقيب يامن الهبش من قرى مصياف، وكثير من الضباط المجندين، والتلاميذ من مختلف مكونات الشعب السوري وإثنياته.
قبل اقتحام الكلية بثلاثة أيام وبحنكة القائد العسكري وخبرته، طلب أبو الفرات من قادة الفوج الأول في لواء التوحيد الذي أغلب عناصره وقياداته من مدينة الباب، مشاغلة النظام بفتح عمل عسكري على كتيبة الرادار في الشعالة، (غرب الباب 10 كم)، فما كان منهم إلا السمع والطاعة للقائد الذي أحبوا، وأبلوا بلاء الأبطال في معركة تحريرها، فأصبح الطريق سهلاً آمناً بين مدينة الباب وحلب.
زرت غرفة العمليات لأخر مرة قبل يوم من الاقتحام، واستمعت لشرح مفصل من العقيد أبو الفرات عن خطته لاقتحام الكلية، بعد أن تأكد من توقف خروج أي شخص منها، انشقاقاً أو استسلاماً أو هرباً، فقد بُحَ صوته وهو ينادي عليهم بمكبر الصوت للنجاة بحياتهم، مع كل الضمانات بالأمان على حياتهم، وعدم تعرضهم لأي إهانة أو أذى، وأنهم جميعاً إخوتنا دون التفريق بين طائفة أو عرق أو دين.
في فجر الخامس عشر من شهر كانون الأول من عام 2012، تم الاقتحام من ثلاثة محاور، مع ترك منفذ لقوات النظام للانسحاب باتجاه معسكر التدريب الجامعي ومنه إلى السجن المركزي. استمرت المعركة لعدة ساعات، وعند الظهيرة علت أصوات التهليل والتكبير معلنةً النصر، ودخل الثوار مكتب مدير الكلية العميد الركن أدم قبيلي، يتقدمهم القائد أبو الفرات، مكللين بغار النصر.
أعطى الشهيد القائد التعليمات بتمشيط كل مباني الكلية وحراسة المستودعات حتى لا تتعرض للسطو أو النهب، وتعزيز الحراسة والرباط على الحد الفاصل مع معسكر التدريب الجامعي الذي انسحبت إليه فلول قوات النظام.
ولكن ما حصل مع رماة الجبل في معركة أحد لم يكن على ما يبدو كافياً لنتعلم منه الدروس والعبر، فانشغل كثير من القادة والمقاتلين بالغنائم، فالمستودعات كثيرة ومليئة بكافة أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة والذخائر.
كان أبو الفرات يصرخ وينادي ويهدد بعقاب الله لمن يغل شملة، ولكن لا حياة لمن تنادي بالنسبة للبعض في ظل الفوضى الحاصلة، فلا آذان تسمع ولا عيون تبصر ولا قلوب تعي ما سيحصل نتيجة مخالفتهم أوامر القائد.
جلس أبو الفرات على كرسي مدير الكلية ولبس عباءته، طالباً إبريقاً من الشاي، لم يسعفه الأجل بتذوقه، وقام الثوار بعملية التمشيط ووصلوا للحد الفاصل بين الكلية ومعسكر التدريب الجامعي، ولكن حماسهم الزائد أنساهم أوامر قائدهم بترك ثغرة لرتل النظام المنسحب وعدم التعرض له، فحصل اشتباك، أدى لهجوم معاكس لقوات النظام التي وجدت نفسها محاصرة من كل الجهات، وتقدمت باتجاه الكلية حيث الجميع منشغل بالغنائم.
تعالت الأصوات بطلب المؤازرة، فخرج أبو الفرات وقاد دبابته مسرعاً باتجاه المكان، برفقته بعض القادة، وحصلت اشتباكات عنيفة استشهد إثرها قادة العملية وهم العقيد يوسف الجادر (أبو الفرات)، الملازم أول أحمد طلاس (أبو يزن)، عمر رمضان (عمر بيانوني)، الإعلامي أحمد ليلى (أبو الوفا العنداني).
وأذكر من الشهداء الذين ارتقوا خلال مجريات تلك المعركة، مرافق أبو الفرات الشاب الكردي شمس الدين، النقيب المنشق محمد الحسين، محمود الحلبي، أبو الريس القائد العسكري لكتبة أحرار حلفايا، أنس الخطيب، شاهين نجار، حسن الصن، حسن قرندل، هيثم الشواخ، يوسف مصري، أحمد مصري.
ارتقاء أبو الفرات والقادة الأبطال الذي كانوا معه، أذهب فرحة النصر بالتحرير، وخيم الحزن على الجميع، باكين قائدهم الذي لم يطيعوه بحرقة قلب مليئة بآهات الندم، مندفعين لاستكمال ما أنجز ودحر قوات النظام التي انسحبت تحت غطاء ناري كثيف جداً باتجاه السجن المركزي، وتعرضت لكمين ناجح من قبل الكتائب المرابطة على الطريق، وغنموا منهم عربتي مدفع فوزديكا وعربة شيلكا، ولكن نجت عربة الـ ب م ب المجهزة لهرب القادة وكان فيها مدير الكلية ورئيس فرع الدورات العميد علي زاهدي، وضباط آخرون، مخلفين وراءهم عددا كبيرا من القتلى والجرحى، يقدر عددهم ب 250 قتيلاً، حيث استلم الصليب الأحمر 246 جثة، أذكر من أصحابها: العقيد علي شاهين، العقيد غسان سليمان، الرائد هيثم عوض، الرائد نزار إبراهيم، الرائد أحمد أسد، المقدم فراس رستم، الملازم أول أوس بركات، الرائد إبراهيم حيدر من مدينة جيرود.
ومما رواه لي أحد الضباط الشرفاء الذين انشقوا في الأيام الأخيرة من الحصار وأصبح لاحقاً من قادة الجيش الحر، عن وضع قوات النظام خلال تلك الفترة:
"كان الاعتقاد السائد لدى ضباط وعناصر الكلية أنه بعد سقوط الفوج 46 بيد الجيش الحر فإن الكلية ستكون الهدف التالي، وأن النظام لن يساند القوات الموجودة فيها".
شهدت الأيام الثلاثة الأخيرة قبل عملية الاقتحام حالات انشقاق جماعية كبيرة للضباط والتلاميذ والطاقم الطبي بالكامل
وكانت الصدمة الأولى بسقوط قرية فافين والقضاء على الشبيحة التي كانت تعج بهم وهروب بعضهم إلى الكلية، وهنا أيقنت إدارة الكلية أن الهجوم عليها بات وشيكاً، فحصلت حالة من التحزبات والشللية، وشدد مدير الكلية الإجراءات الأمنية وعزز الحراسة حول مبنى القيادة نتيجة انعدام الثقة فيما بينهم، بالإضافة إلى تخزين كمية كبيرة من الطعام ما أدى إلى تذمر باقي الضباط بما فيهم العلويون المقربون، ومع اشتداد الحصار وتضييق الخناق على الكلية دارت معارك من نوع آخر داخل الكلية على الخبز الذي ترميه الحوامات، ومن يحصل على كمية من الخبز يدافع عنها بالسلاح، وبدأت تنهار معنويات الجميع وتسوء حالتهم النفسية، وخاصة في الأيام الأخيرة عندما فتك بهم الجوع، فأصبح هناك شبه تمرد جعل من مدير الكلية لا يجرؤ على النوم في مكتبه.
شهدت الأيام الثلاثة الأخيرة قبل عملية الاقتحام حالات انشقاق جماعية كبيرة للضباط والتلاميذ والطاقم الطبي بالكامل، وهنا تظاهر المدير كعادته بأنه تعرض لأزمة قلبية. تمكن اليأس من الجميع وحاولوا مقابلة المدير من أجل الاستسلام، وهنا يروي لي المقدم المنشق حادثة انهيار الرائد سمير عثمان وانفجاره في البكاء متوسلاً أنه لا يريد أن يموت، ولكن كانت ضغوط القيادة التي لم تساندهم باعتبار من يستسلم خائن، وعقوبة الخيانة الإعدام".
وبتحرير كلية المشاة وكتيبة الشعالة يضاف نصر جديد لانتصارات الجيش الحر، ومعها أصبحت الطرق إلى مدينة حلب سهلة ومختصرة من ريفي حلب الشمالي والشرقي، ولم يبق في ريف حلب الشمالي سوى مطار منغ العسكري، واللواء 135 احتياط بالقرب من مدينة عفرين، الذي ستكون معركة تحريره محور مقالي المقبل.