لم تكن أحداث الأمس في مدينة منبج في "ريف حلب الشرقي" بمعزل عن جملة من الأحداث المترابطة منذ بداية الثورة حتى أيامنا هذه، والتي تؤدي بمجموعها إلى معطيات تفاقمت حتى تعدت إلى درجة خروج التحركات الأخيرة المناهضة لسياسات قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في منبج عن مجرد كونها مطالبات بالإصلاح الإداري والخدمي، بل ووصلت إلى مطالبات واضحة وصريحة بخروج قسد وتسليمها قيادة المدينة لأهلها.
بعد يومين من المظاهرات المتصاعدة والتي سقط فيها 4 قتلى و27 جريحاً برصاص "قسد" في صفوف المتظاهرين، رضخت "الإدارة الذاتية" للمطالب ووعدت بإيقاف العمل بحملة الدفاع الذاتي في منبج وريفها وإحالتها للدراسة والنقاش"، وإطلاق سراح جميع المعتقلين في الأحداث الأخيرة، وتشكيل لجنة للتحقيق في الحيثيات التي تم فيها إطلاق النار ومحاسبة كل من كان متورطاً في ذلك"، وفق بيان صادر يوم أمس عن "قسد" ومجلس منبج العسكري المنضوي تحتها وشخصيات عشائرية.
وشهد يوم الثلاثاء الماضي احتجاجات خرجت في منبج ضد قرارات مايعرف بـ "الإدارة الذاتية" بشأن التجنيد الإجباري الذي تفرضه على الشبان من عمر 18 وحتى 30 عاماً، ليكون رد "الإدارة الذاتية" الأول فرض حظر تجول لمدة 48 ساعة، ولكن رغم قرار فرض الحظر إلا أنه قد خرجت مظاهرات في السوق الرئيسي، وساحة الساعة، ودوار الدلو بحي السرب، ودوار الجزيرة في مدخل مدينة منبج الجنوبي الشرقي.
مدينة منبج من بداية الثورة السورية وحتى سيطرة "قسد"
ولتسليط الضوء على جذور التوترات الأخيرة والتي حصلت سابقاً، فلا بد من عرض لأهم المحطات التي مرت بها مدينة منبج منذ بداية الثورة السورية؛ فعندما انتفضت المدن السورية في عام 2011 لم تتأخر المدينة كثيراً عن اللحاق بركب أخواتها من مدن الريف الحلبي، إذ استطاع الجيش السوري الحر تحريرها بعد عام واحد فقط من اندلاع الثورة السورية، ثم خضعت لمدة عامين كاملين لسيطرة مجلس محلي من أبنائها، وفيما بعد استطاع تنظيم داعش السيطرة على المدينة صيف عام 2014.
ثم في آب من عام 2016 وبدعم من التحالف الدولي سيطرت قوات قسد على مدينة منبج بعد معركة طويلة مع تنظيم داعش؛ وبعد سيطرتها عملت "الإدارة الذاتية" مع مجلس منبج المدني على إدارة المدينة وريفها، حيث كان واضحاً – كما يرى مراقبون - سعي الإدارة الذاتية لفرض إيديولوجية تروّج لها، من خلال بناء المؤسسات والمشاريع التنموية والخدمية في المنطقة، والعمل على تأهيل وتدريب العاملين في المؤسسات العامة، وفي قطاع التربية والتعليم والثقافة.
وعلى مدار سنوات من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على مدينة منبج؛ وعند إلقاء نظرة على التركيبة السكانية لمدينة منبج - ذات الأغلبية العربية - فإننا سنجد رفضاً ضمنياً من كثير من الفئات المجتمعية في المدينة لتفرد قسد بإدارة المدينة، خاصة إذا علمنا أن معظم مفاصل الإدارة الأمنية والعسكرية والخدمية في المدينة تسيطر عليها إما قيادات محسوبة على قسد أو موالون لها.
ومما يميز مدينة منبج موقعها الاستراتيجي الذي يحاذي نهر الفرات، إذ تعتبر صلة الوصل بين الضفة الشرقية للنهر والمعروفة باسم (الجزيرة)، والضفة الغربية المعروفة باسم (الشامية)؛ كما وتبعد منبج عن الحدود التركية نحو 30 كم، وهي ذات تكوين عشائري.
التجنيد الإجباري
في مناطق سيطرتها الممتدة على معظم محافظة الحسكة وأجزاء واسعة من محافظتي الرقة ودير الزور ومدينتي كوباني (عين العرب) ومنبج بريف حلب، سنّت "قسد" منذ عام 2014 قوانين فرضت التجنيد الإجباري على الشباب بين 18 و30 عاماً.
وتطلق قسد حملات تجنيد إجباري بين الحين والآخر من خلال إقامة حواجز تفتيش ودوريات طيارة، لكن بعد خسارتها لعدد كبير من عناصرها في المعارك، وكذلك الشباب الذين قصدوا أوروبا، تحاول قسد تعويض هذا النقص من خلال التجنيد الإجباري الذي كان مفروضاً على الفتيات من المكون الكردي في البداية، ثم شمل ذلك لاحقاً الشباب والفتيات العرب.
وهو الأمر الذي دفع العديد من الشباب الجامعي لترك مقاعد الدراسة واضطرارهم للهجرة لمناطق سيطرة المعارضة، أو الهجرة إلى الخارج خوفاً من تجنيدهم وزجهم في جبهات القتال.
القطاع الخدمي
تعتبر منبج بالنسبة لـ "وحدات حماية الشعب"، شرياناً اقتصادياً مهماً بسبب النشاط التجاري الذي تلعب فيه منبج دوراً رئيسياً، حيث إنها تربط مدينة حلب بمناطق شرقي الفرات وغربها، مثل: القامشلي والرقة والحسكة وشرق دير الزور، بالإضافة إلى وجود قواعد عسكرية للتحالف الدولي فيها، قبل أن يتم إخراجها من المدينة إبان قيام القوات التركية وقوات الجيش الوطني بتنفيذ عملية "نبع السلام" أوائل شهر تشرين الأول من عام 2019.
ومما ينقده متابعون على إدارة قسد الخدمية لمدينة منبج، هو إمساكها بقوة بجميع مفاصل الخدمات في المدينة، وتحكمها بالمعابر التي تصلها بمناطق سيطرة الجيش الوطني من جهة، ومناطق سيطرة النظام من جهة أخرى، إذ لا يسمح بدخول أو خروج أي منتجات إلا بفرض رسوم مالية تحددها الإدارة؛ بالإضافة إلى عدم سماحها لأي أحد من التجار بنقل النفط من مناطق الحسكة ودير الزور إلى المناطق الأخرى إلا عن طريقها، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المحروقات، وأسعار الخبز، وقطاعات أساسية أخرى.
المناهج الخاصّة بهيئة التربية والتعليم
فُرضت المناهج التعليمية على جميع المعاهد والمدارس الحكومية منها والخاصة بمدينة منبج وفق الإيديولوجيا التي تتبناها الإدارة الذاتية، حيث يوجد في المدينة وريفها أكثر من 300 مدرسة و 18 روضة أطفال، وتجاوز مجموع عدد الطلاب فيها هذا العام 100 ألف طالب في جميع المراحل التعليمية.
وتعتمد الإدارة الذاتية على ثلاثة أركان في مناهجها الخاصة:
- الحاجات الإيديولوجية
- اعتماد اللغة الكردية
- وثالثها مرتبط بضرورات التغيير وإعادة التأهيل للبنى التعليمية، وعلى ترسيخ النظام التعليمي وفق مبادئ "الأمة الديمقراطية" استناداً على "فلسفة عبد الله أوجلان" بوصفه القائد والأب الروحي للمشروع الكردي.
وقد تم اعتماد هذه النقاط الثلاثة في المؤتمر الثاني لمؤسسة اللغة الكردية SZK الذي عقد في مدينة عفرين بتاريخ 18 من كانون الثاني 2015.
وقال مدير إحدى المدارس الثانوية في منبج لموقع تلفزيون سوريا: "إن الإدارة الذاتية تدعم معاهد تعلم اللغة الكردية بشكل خاص وتخطط لعملية تغيير ديموغرافية للمنطقة، حيث يتم التركيز على غرس أفكار أوجلان وفلسفته والنظريات التي تشجع على الإلحاد، كما ويتم تدريس بعض العبادات الوثنية؛ وغير ذلك من الأمور التي تنافي الدين الإسلامي وعادات وتقاليد ودين أهل المدينة".
ويضيف المدير: "في مادة العلوم الاجتماعية حُذف كل ما يمت للإسلام بصلة، واُستبدلت بالحضارات الأموية والعباسية حضارات قديمة كشعوب آرية، وميدية، والحضارة الصينية، والهندية؛ وبما يخص الثورة السورية فإنه يوجد درس بعنوان (ثورة شمالي وشرقي سوريا) تمت الإشارة فيه إلى أن الشعب الكردي اختار لنفسه طريقاً مستقلاً عن النظام السوري والمعارضة، وكان يهتف معهم العربي والشركسي والتركماني والسرياني يداً بيد، وأن العملية الأخيرة على عفرين تعتبر احتلالاً".
ويختم بالقول: "إن كثيراً من الأساتذة مستاؤون من حالة التعليم تلك، ولكنهم لا يستطيعون الاعتراض على أيّ قرار، فمن يعترض على أي قرار يتم فصله مباشرة أو قطع راتبه، ومعظمهم مضطرون لإعانة عوائلهم في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها المنطقة وظروف جائحة كورونا".
القوى الناعمة
قامت الإدارة الذاتية بإنشاء عدة مؤسسات ثقافية، واتحادات طلابية شبابية ورياضية، ومراكز تدريب وجمعيات تُعنى بشؤون الأعراق الأخرى كالتركمانية والشركسية، وجمعيات خاصة بحماية المرأة، وأخرى مهتمة بالفن كالغناء والدبكات الشعبية؛ سعياً منها للظهور أمام المجتمع الدولي بأنها ديمقراطية لا تهمش أي عرق موجود في المدينة، وتركز على الجوانب الثقافية والفنية..
ويأتي في السياق نفسه حضها للعاملين في المؤسسات العامة على تبنّي سياساتها وتوجهاتها؛ حيث أصدَرت لجنة التربية والتعليم والمؤسسات التابعة لها إدانات واستنكارات للعمليات التركية في شمالي وشرقي سوريا، وقد خرج العاملون في مظاهرات مناهضة لتركيا، وواصفة عملياتها في مواجهة خطر "حزب العمال الكردستاني" داخل الأراضي السورية بـ "الاحتلال ".
وفي إطار سعيها لاستغلال قضايا المرأة، فرضت سلطات قسد "كتاب الجنولوجيا" والذي يتمحور حول تاريخ المرأة وحريتها، وعلاقة المرأة بالرجل، ويحاول نفي فكرة المؤسسات الاجتماعية كالأسرة والزواج، وتبني فكر النسوية الغربية، وأكد عدد من الأهالي لموقع تلفزيون سوريا أن محتوى الكتاب "يشجع على الانحلال الأخلاقي"، بحسب وجهة نظرهم.
قضايا أمنية شائكة
من أكبر التحديات التي تواجه استقرار سيطرة قسد على مدينة منبج وعموم مناطق شمال شرقي سوريا، عدة أمور تتعلق بالملف الأمني قد يكون لها دور كبير في تأجيج ورفع وتيرة الاحتجاجات المناهضة لقسد، ومنها:
- اغتيال بعض شيوخ العشائر، ثم تنصيب شيوخ موالين لقسد
- انتشار حالات خطف لأشخاص معارضين لقسد، واعتقال آخرين وتلفيق تهم لهم بانتمائهم إلى تنظيمات إرهابية
- الانفلات الأمني الذي تشهده مناطق قسد
- علاقة قسد المتوترة مع الأطراف المؤثرة على الأرض السورية، مثل: تركيا وفصائل المعارضة السورية، وعلاقتها غير المستقرة بشكل دائم مع روسيا والنظام
لا شك أن التطورات الأخيرة في مدينة منيج والتي تحولت إلى دموية ستكون لها تداعياتها الخطيرة على شمال شرقي سوريا عموماً، وعلى مدينة منبج خصوصاً؛ وما يحدد استمرار هذه الاحتجاجات وتطورها من عدمه، إنما يرتبط بشكل أساسي بمدى استجابة سلطات قسد لمطالب الأهالي وتطبيق خطوات عملية حقيقية في سبيل ذلك، وتفاديها للانتهاكات الأمنية التي وقعت بها، ثم مدى تنظيم الفئات المناهضة لقسد من عشائر، وفعاليات شعبية، ووضوح أهدافها.