في البلاد العربية، وفي عروق وأوردة أجساد الغاضبين من مجزرة غزة المستمرة منذ أكثر من شهر، لا تجري فقط دماء البشر العادية، بل يمشي أيضاً الخذلان والعجز! وقد تكرر لدى هؤلاء طيلة عقود سابقة أنهم في وقت الملمات العظيمة، كما في وقتنا الحالي، يصلون إلى حافة مرعبة من فقدان القدرة على الفعل! حيث تجري الأمور بغير ما يرغبون ويحلمون، وذلك بسبب غياب إراداتهم عن مواقع السلطات الحاكمة لبلدانهم!
كل المتضامنين مع الشعب الفلسطيني في غزة، ولاسيما منهم أولئك الذين تحدوا حظراً شبه متقف عليها بين الأنظمة العربية والغربية التي كممت الأفواه على حد سواء خدمة لحرب الإبادة الإسرائيلية، لم يكونوا يوماً عاجزين عن الإتيان بالأفعال التي يجب عليهم أن يفعلوها، فالحالة المدنية تستوجب أن تكون ردود الفعل من ذات النسيج، فرغم القمع في الساحات الأوروبية إلا أن القدرات النضالية الكبيرة المعززة بمعرفة الحقوق والواجبات وفق الأنظمة والقوانين المحلية، لم تغب عن المشهد فأجبرت مجلس الدولة في فرنسا كمثال على إلغاء منع المظاهرات المؤيدة لفلسطين، وبفضلها عاد المتظاهرون إلى الساحات لينددوا برخصة قتل إجرامية تم منحها لأسوأ زمرة حكمت الكيان الاستيطاني منذ اغتصابه للأرض الفلسطينية.
ما تمكن المناصرون للقضية أن يفعلوه في الشوارع الأوروبية وغيرها، يبدو غير قابل للتحقق في المدن العربية، حيث الجميع يخضعون ومنذ تمكن الثورات المضادة من فرض سيطرتها على رغبات الشعوب بالحرية والديمقراطية، لحالة طوارئ تمنع أو تقنن أفعال وردود فعل الجماهير، والتي انتهت فعلياً بأن باتت الأنظمة تجرم كل من يخرج على وجهات نظرها ويعلن الاحتجاج بطريقته، على هذه الجريمة المروعة بحق الفلسطينيين، في تكرار مقيت لآليات قمعية، لا يمكن في ظلها مناقشة تفاصيل أي شأن سياسي أو حياتي!
لعل أفحش تعبير عما وصل إليه الحال العربي عموماً إنما هو قيام نظام الأسد بفرض شرط توفر الموافقات الأمنية الإلزامية على كل من يريد أن يصرخ في الشارع ضد إسرائيل!
وفي ظل مثل هذا القمع المستشري، يصبح من غير الممكن التمحيص في الخطوة التي أقدمت عليها حركة حماس، ولا التوقف عند استئثارها بقرار الحرب والسلم، طالما أن إرادات الشعوب مقيدة، وأن حقوقها في التعبير حتى عن غضبها من مجزرة كارثية كهذه عرضة للمناورات والمبازرات!
ولعل أفحش تعبير عما وصل إليه الحال العربي عموماً إنما هو قيام نظام الأسد بفرض شرط توفر الموافقات الأمنية الإلزامية على كل من يريد أن يصرخ في الشارع ضد إسرائيل!
وفي المقابل لهذا يمكن القول بأن أرقى أشكال النضال السلمي المدني في سبيل فلسطين يمكن أن تراه عربياً، هو ذاك الذي يجري في ساحة الحرية وسط مدينة السويداء السورية، وفي كل ميادين القرى والبلدات المنتفضة ضد الأسديين. ففي هذه الأمكنة فقط يتقدم الإحساس بفلسطين على الإحساس المحلي الراسخ بضرورات التحرر من الديكتاتورية! وربما يمكن الجزم بأنه المكان الوحيد الذي يرى شاغلوه بأن المعادلة الأنسب لدعم الفلسطينيين في سبيل حريتهم إنما هي حرية الشعوب العربية من التسلط والديكتاتوريات، بعد أن أمسى قامعوها تجاراً يقايضون، ويبيعون، ويشترون بحقوق البشر، وفق أجندة الإيرانيين، أو أجندة الإسرائيليين!
إسرائيل ككيان صهيوني، مثلها مثل الأنظمة العربية؛ لا هي أزل ولا هي أبد.
مأساة غزة اليوم تتفوق على مآسيها السابقة، بعدد ضحايا إجرام الجيش الإسرائيلي، وبعورة أخلاقية هائلة بات الجميع يمر تحتها بعيون متجهة للأسفل!
لكنها في لحظتها الإجرامية هذه تبدو مستمرة، بعد أن استمدت توحشها من صمت دول العالم على جرائم الآخرين. فإذا كانت قد صمتت خلال السنوات السابقة عن نظام الأسد الذي فتك بمئات آلاف السوريين، وأفلت من العقاب، فلماذا يكتم وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو كوامن عقله ورغبته بإبادة الغزاويين بالقنبلة النووية؟! ألم يشرّع موت السوريين لهذا ولغيره أن يقول ويفعل ما يشاء؟!
مأساة غزة اليوم تتفوق على مآسيها السابقة، بعدد ضحايا إجرام الجيش الإسرائيلي، وبعورة أخلاقية هائلة بات الجميع يمر تحتها بعيون متجهة للأسفل! شكّلها مقتل آلاف المدنيين، تحت الرخصة الدولية الممنوحة لنتنياهو وحكومته!
هؤلاء الذين لا يريدون أن ينظروا للأعلى، مخافة من أن يروا الحقيقة الراسخة، والتي تفيد بأن مسؤوليتهم عما جرى ويجري كبيرة، وهي تتجاوز مسؤولية حماس عن خطوتها الراهنة، وتعود بهم إلى تاريخ إنشاء الدولة العبرية، والتسليم بانتصارها على حساب حقوق الفلسطينيين، وتشريع استيلائها على أملاكهم وبيوتهم، وتاريخهم وتراثهم!
لن تتمكن أي قوة محلية أو إقليمية أو دولية من إنهاء الصراع المستمر من دون أن يحصل أصحاب الحقوق عليها.
وأي تفكير يتجاهل هذا هو تفكير قمعي في جوهره، يعيد نسخ جذر المآسي التي تعيشها المنطقة منذ عشرات السنين، ويتجاهل أنها تتصل ببعضها، حتى لتبدو كأنها مشكلة واحدة!