تحتدم ملفات المرحلة السورية بعد زلزال شباط الماضي الكارثي، مُنبئة بسلسلة من الزلازل السياسية لا يمكن التنبؤ بنتائجها الكارثية بدقة بعد، بقدر أن مؤشراتها لليوم متناقضة ومتباينة الأهداف والأغراض. من جهة يحدث التقارب التركي السوري برعاية روسية واشتراطات إيرانية على لقاءات رباعية تمهد لترتيب المنطقة جيوسياسياً، مترافقة مع المبادرة العربية تعويماً أو استيعاباً أو استبعاداً لكن من غير إعلان عن مضمونها لليوم. بينما تمر ذكرى الثورة السورية الثانية عشرة من جهة أخرى بين مرارة وحزن عارم وإصرار عام على مواصلتها بغض النظر عن كل الملفات السياسية القائمة.
بين هذه وتلك تأتي ذكرى المعلم وعيده السنوي لتتناساه وتتجاهله كل المبادرات السياسية، لا بل تؤشر جميع المؤشرات المحلية والدولية إلى أنه الشخص الذي يحمل جميع أعباء المرحلة الماضية ونتائجها السلوكية والتربوية على أجيال سابقة، وعلى حمل وتركة الأجيال الحالية بلا تعليم، فكيف هي أعباؤه الاقتصادية والأمنية التي يرزح تحتها في الواقع السوري الداخلي؟!
باتت البلاد لا تحمل أبناءها لا أمنياً ولا اجتماعياً ولا اقتصادياً ولا سياسياً، وتستمر مبادرات التسوية السياسية الخلبية!
تشير التقارير الأممية طوال الفترة الماضية إلى أن ما يزيد على مليونين وربع مليون طفل سوري خارج العملية التعليمية، يقبع معظمهم في مخيمات اللجوء ومناطق النزوح القسري. وأن 40% من مدراس سوريا وبناها التحتية مدمرة كلياً. كما أن أغلب الجامعات السورية خارج التصنيف العالمي أكاديمياً وفي ذيل القائمة العربية، وأن سوريا ونظامها التعليمي خارج التصنيف العالمي علمياً وتربوياً، حيث يعم الفساد في كل الدوائر والمؤسسات السورية وأجهزتها بما فيها التعليمية، حيث لا يكاد عام يمضي إلا وتشير التقارير لفساد إداري ومالي فيها. إضافة إلى هذا تشير تقارير ودراسات غير رسمية لتزايد معدلات التسرب من المدارس وعمالة الأطفال وهجرة واسعة للشباب السوري سواء قبل إنهاء مرحلته التعليمية أو مجرد إنهائها، فقد باتت البلاد لا تحمل أبناءها لا أمنياً ولا اجتماعياً ولا اقتصادياً ولا سياسياً، وتستمر مبادرات التسوية السياسية الخلبية!
يروى أنه في ستينيات القرن الماضي زار مهاتير محمد، مؤسس ماليزيا الحديثة، سوريا وصرح يومئذ أنه يطمح أن تصبح ماليزيا دولة متقدمة كسوريا. يومئذ كانت سوريا على عتبة إطباق العسكر والسلطة الأمنية بواجهتها البعثية على كل شؤون الدولة ومؤسساتها. واليوم بعد نصف قرن من ذاك التاريخ ونيف، سوريا تصبح خارج التصنيف العالمي بجميع المجالات والأهم من هذا علماً وتعليماً، واقتصاد موظفيها الحكوميين، وأهمهم المعلم والمعلمون، الأدنى عالمياً ودون منتصف مؤشرات خط الفقر العالمي، وبنسبة تصل إلى 95% من السوريين! بينما تنهض ماليزيا علمياً وتربوياً وتقنياً واقتصادياً وتنخفض فيها معدلات البطالة لما دون 3% ونسبة الفقر فيها من 70% إلى 4%. ولغرابة إضافية في المشهد أن مهاتير محمد، ومنذ تسلّمه رئاسة وزراء ماليزيا 1981، حين أراد أن ينهض بماليزيا دفع باتجاه الاهتمام بالعلم والمعلم صانع الأجيال والمستقبل أولاً والتصنيع والبعد الاجتماعي تالياً، في حين اهتمت السلطة السورية وركزت جلّ اهتمامها على وضع المعلم في آخر سلم التنمية والاهتمام، مقابل تركيز الاهتمام في تسليط دور البعث وأدواته السياسية والأمنية والاستخبارية على رقاب الشعب بعمومه، لدرجة بات المعلم يخشى من كُتاب التقارير فيه من مستخدم المدرسة وصولاً لمديرها أو موجهها التربوي أو الشبيبي!
هكذا بدت معالم المرحلة السورية في العقود الماضية نتائجها متضمنة في مقدماتها، مرحلة أنبأت بوضوح مآلاتها الحالية. رسّخت خلالها سياسة الرعب والخوف المطلق من الإجهار بالرأي المختلف أو الانتماء السياسي والفكري المختلف عن نهج البعث وسلطته الأمنية، سوى تلك الأحزاب المنضوية فيما سمي جبهة وطنية تقدمية تتبع ذيلياً لقيادة حزب البعث وسلطاته السياسية والأمنية. وتهمة كل من يجاهر برأي مختلف جاهزة من: وهن للشعور القومي، وخروج عن نهج الاشتراكية والحرية في البلد وعمالة للخارج ودعم الامبريالية العالمية وسلسلة تطول من التهم الجاهزة... يقبع صاحبها في السجون بلا محاكمة أو قضاء تحت شرط الأحكام العرفية التي بقيت تعيشها سوريا حتى العام 2012. لتستبدل، ومع انطلاق ثورتها 2011، من قوانين الطوارئ إلى قانون الإرهاب السيئ الصيت والسمعة، القانون الذي حول الشعب السوري عامة إلى متهم بالتطرف أو الإرهاب!
في كتابه "الخوف من الحرية" حاول "أيرك فروم" جدال وهم الفكرة القائلة بأن كلا من الشعب الألماني والإيطالي يحتاج إلى زمن من التدريب على الديمقراطية ليلحقوا بركب الديمقراطية الفرنسية، بينما أصل الفكرة في استبداد نظامهما السياسي غير المتقبل إلا لديكتاتوريته ونموذجه العنصري في الهيمنة على الحياة السياسية وأجهزة الدولة جميعاً. وهذه يمكنها أن تطرح مقاربة عامة لمجريات الوضع السوري وكارثية وضعه التعليمي على أقل تقدير. فأي طرح تربوي أو تأهيلي في ظل نظام استبدادي لا يؤمن إلا بتفوقه الأمني السياسي ليس سوى محاولة تجميلية هامشية لا يمكنها أن تصبح ثقافة عامة، أو عملية تربوية ناجحة حتى لو تم تحديث مناهجه التربوية مراراً. فقد درجت السلطة السورية منذ العام 2005 لليوم وآخرها في العام 2018 على تحديث مناهجها الدراسية مرات عدة، من دون أي تحسن في المستوى التعليمي، بل مزيد من الترهل العام في جميع قطاعاته التربوية والتعليمية. لا بل وزاد معه ترسيخ سياسات ترديد النشيد الصباحي وتدجين الطلاب في فئات الطلائع والشبيبة واتحاد الطلبة. في نموذج يحاكي إعادة تدجين جيل بكامله تحت هيمنة المقولات ذاتها التي ولّدت الخراب العامّ السوري. ما يعيد المسألة إلى السؤال المركزي ذاتِه في أن أصل المسألة التربوية هو إطلاق الإمكانات الذاتية للأفراد في المجتمع، وهذا يستلزم فضاء من الحرية وذهنية التنوع والاختلاف وقبول الآخر بشكل علمي ومنهجي سواء وافق نهج السلطة الحاكمة سياسياً أو لا. فالتربية والتعليم كما هي باقي فضاءات الحياة الثقافية والفنية لا يمكنها النجاح إلا عندما يتمتع المربون بقدر كاف من الحرية والديمقراطية والاكتفاء الذاتي، بحيث يستطيعون من خلاله تقديم أفكارهم ونظرياتهم التربوية من دون تخوين أو تجريم. وهذه بالأساس مرتبطة ببيئة النظام السياسي العام وطريقة إدارة مؤسسات الدولة، ويعجب المرء من شتى المبادرات السياسية التي تحاول الحفاظ على البيئة السياسية ذاتها منتجة العنف والهدم العامّ تحت عنوان الاستقرار والتعافي المبكر، واستثناء مقولتي الإنسان والتغيير.
المعلم بات براتبه الوظيفي المقدر وسطياً بـ 150 ألف ليرة شهرياً لا تكفيه لأن يشتري به أكثر من رطل لبن وصحن بيض وعلبة متة وكيلو سكر ورز وبرغل وعدس مع لتر زيت
القول المتردد لليوم في مدراس سوريا، تردده طلاب المدارس سنوياً: قم للمعلم وفّه التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا، بات قولاً فضفاضاً وشعاراً بلا محتوى أو معنى مثله مثل شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية البعثية، أو تحرير الأراضي المحتلة من العدوان الصهيوني الغاشم، في حين باتت سوريا تحت احتلالات متعددة الأوصاف والأنماط! والمعلم بات براتبه الوظيفي المقدّر وسطياً بـ 150 ألف ليرة شهرياً لا تكفيه لأن يشتري به أكثر من رطل لبن وصحن بيض وعلبة متة وكيلو سكر ورز وبرغل وعدس مع لتر زيت حتى يطير راتبه كلية ولا يكفيه لأربعة أيام! هذا ولم يفكر بعد بأجر المواصلات والتنقل، ولم يقدم لابنه الطالب في المدرسة أو الجامعة! فكيف له أن ينهض بتركة العملية التعليمية، وغالبية المعلمين يهاجرون طوعاً وقسراً خارج سوريا؟
يبدو أن مهاتير محمد يردد: ما هكذا تورد الإبل، وما هكذا تكون مبادرات الاستقرار والعلم!