رغم استمرار ساحة الكرامة في السويداء في تظاهراتها السلمية لما يزيد على العام وثلاثة أشهر، وبشكل يومي من دون انقطاع، ورغم حفاظها العام على ثوابتها في المطالبة بالتغيير السياسي بمرجعية القرارات الدولية وفي مقدمتها 2254، وصولاً إلى دولة لكل السوريين، لكن السويداء، كما هي الحالة السورية، تعاني برمتها من مأزق واستعصاء عمومي، فهل تكثفت الحالة السورية في السويداء أم إن بإمكانها إدارة الدفة السياسية بمسار مختلف؟
ومع فشل جميع محاولات الأجهزة الأمنية بإيقاف الموجة الثورية الثانية للثورة السورية من السويداء، سواء عبر الحملات المركزة من الشائعات وموجات التشهير وتلفيق التهم الجزافية لمتظاهري ساحة الكرامة والعمل على تبديد الرأي العام من حولها، أو عبر الملاحقات الأمنية بشتى أنواع الطرق الخبيثة بتحويل ملفات متظاهري ساحات الكرامة إلى ملفات جنائية تصطدم بحاجز القانون الوضعي؛ يبقى الاستمرار والإصرار على انتفاضة السويداء الشعبية عنواناً بارزاً فيها، قاعدته السلمية وقمته التغيير السياسي.
الحراك الذي يمكن وصفه بـ"الماراثوني" ويستحق عن جدارة دخول كتاب غينيس للأرقام القياسية، مصاب بمأزق الفاعلية والانتقال إلى خطوات عملية، وهنا تتكشف المسألة السورية بكل تبايناتها، فمأزق السويداء انعكاس واضح وتكثيف عام للاستعصاء السوري.
وعدم الوصول إلى التغيير السياسي، أو إسقاط النظام سلمياً أو عسكرياً، هو أصل استعصاء الحل السوري والثورة السورية، وبالضرورة تحوّل مساراتها من سلمية، منتصف العام 2012، إلى اختلاط عام بين قوى الثورة الحية مع مفاعيل العنف والاحتراب المحلي المتعدد المحاور محلياً وإقليمياً ودولياً، لتفصح متغيراتها عن كارثة سورية إنسانية وسياسية واجتماعية واقتصادية عامة، لدرجة باتت الثورة السورية توصف بالثورة اليتيمة التي لم تنصفها شرائع حقوق الإنسان العالمية ومواثيق وقوانين الأمم المتحدة ومجلس أمنها حتى وهي تصدر قراراتها بالحل السوري.
وتتحوّل المسألة السورية لعقدة دولية معطلة إلى اليوم عن الحل، ما ضاعف من يتمها وعزلتها وتحويلها إلى مساحة لتقاسم النفوذ الدولي متعدد المحاور وما نتج عنه من حدة التباين المحلي بطرق الحل ومساراته.
والسويداء اليوم المتمسكة بالسلمية تتجنب الانجرار للعنف وعياً منها بمسارات التحول السورية الكارثية، لكن انتفاضتها باتت معزولة وربما نستشعر يتمها أيضاً.. فرغم أحقية ما تمارسه مدنياً وسياسياً وسلمياً، فإن أية محاولة منها للتحرك خارج عزلتها يزيد من مأزقها العام ويزيد من حدة التباينات السياسية المحلية بشأن أية خطوة تخطوها.
فإن فتحت قنوات التواصل مع السوريين فستجد أنها محفوفة بخطري التصنيف بالانفصالية إذا ما حاورت السوريين الكرد، أو بالائتلافية والأخونة والأيديولوجيات الكلاسيكية إذا ما انفتحت على الحوار مع الائتلاف ومنصات هيئة التفاوض.
وحقيقة الأمر أن السويداء بخلاصتها العامة، تدرك جيداً حجم التباين السوري في التوجهات المطروحة أمامها من جميع المشاريع السياسية المطروحة على أرض الواقع، ومع هذا، ورغم أن الانقسام السوري يتجلى بأكثر من مؤشر بالسويداء بالطريقة نفسها، لكن المنتج الحاضر للسويداء لليوم هو:
- التأكيد على الانفتاح والحوار مع كل الفرقاء السوريين للوصول إلى مقومات التغيير السياسي والتوافق الوطني على آليات تفعيله.
- السويداء إذا ما حاورت القوى الديمقراطية في مؤتمر مسار الديمقراطي فإنها لا تتبنى مشروعاً انفصالياً، كما أنها لا تتبنى مشروع الإخوان المسلمين إذا ما انفتحت على الائتلاف وشمال غربي سوريا، وهذا التصنيف الجزافي هنا وهناك، هو جذر الاستعصاء السوري العام، في حين أن السويداء تحاور الجميع وتصر على التغيير السياسي العام.
- لا توجد على مساحة السويداء قوى أمر واقع تستند إلى قوى دولية يعمل بعضها ضد بعض، وترفض الانجرار إلى تباين المشاريع الدولية، وهذا على ما يبدو يضعها هدفاً للاستمالة لإحدى هذه المشاريع، ما يفسر تباين التصنيف مع أو ضد.
مأزق السويداء اليوم يتجلّى في أنّها تقف على مسافة متساوية من جميع الفرقاء السوريين، وتباينهم بطريقة وأدوات الحل السياسي هو خلاصة وكثافة الاستعصاء السوري العام.
في حين أنّ مؤشرات المرحلة تشير إلى ضرورة العمل على كسر حواجز السياسة وتابوهات المشاريع السياسية الخارجية، والعمل على أحقية التوافق العام المحلي والوطني بين مختلف الفعاليات السياسية والمدنية وعلى ضرورة التعامل مع المعيقات التي تعترضه واستحقاق الحل السياسي الجذري السوري، ما يتطلب من أبناء السويداء ذاتهم العمل:
- تماسكهم الداخلي والثبات على المشروع الوطني وبوابته التغيير السياسي وفق 2254.
- عدم الانجرار خلف أية مشاريع عسكرية تحت مسميات واهية يتحولون معها إلى أدوات تتحكم فيهم مشاريع الدول الإقليمية في المنطقة.
- استمرار العمل والبحث عن التوافق الوطني العام وضرورة التشارك في المسؤولية والاستحقاق في الفعل السياسي كشأن سوري عام مع كل قوى التغيير الوطنية السورية مهما تباينت أيدولوجياتها.
- الإدراك العميق لخطورة متغيرات المنطقة إقليمياً، والتمركز على الثوابت الوطنية والاجتماعية والتي يمكن ترجمتها سياسياً بضرورة إدارة الاختلاف بالرأي والشحنات الشعورية الطافية على قاعدة المصلحة العامة، وهذا العمل مجهد ومُضنٍ.
- نظام الأسد هو مصدر جميع الكوارث السورية، وما لم يحدث التغيير فيه، فستزداد الحالة السورية تشظياً وقد يفرض على السوريين جميعاً حلولاً تختلف عما نحاول طرحه أعلاه.
العمل على إدارة خلاف الرأي وتذليل وتلطيف الآراء والشحنات الشعورية الغاضبة مسؤوليةٌ جماعيةٌ تستحق المثابرة والاستمرار بحكمة وتعقل، وهي ذاتها تتشابه من حيث المحتوى والمضمون بإمكانية الانفتاح والحوار مع كل السوريين، على قاعدة المصلحة الوطنية والمشتركات العامة، وفي السياق نفسه الحفاظُ على محفّزات الحرية واحترام الخصوصية والتنوع السوري والحقوق العامة ومواجهة الواقع المرير الذي نعيشه كسوريين تختلف باختلاف المكان والجغرافيا لكن عنوانها واحد: الكارثة السورية.
وهذا بالضرورة يقود إلى حوار نقدي بنّاء قوامُه:
- إدارةُ الاختلاف على قاعدة المصلحة الوطنية أولاً.
- تقديم التحليل البناء وفق تحديد السياقات الموضوعية.
- البحثُ عن آليات التوافق والتكامل في العمل السياسي العام.
- اختلاف المظالم لا يعني أبداً أن هناك مظلمة سورية تفوق أو تقلّ عن الأخرى، فكل السوريين مظلومون ما لم يحدث التغيير السياسي.
إن إعادة التقييم والاستماع بحرص للنقد من جهة ولمظالم السوريين أياً كانت جهتها، هو مقدمة أولى للخروج من الاستعصاء السوري العام، فإن كان هذا سيشكل مأزقاً للسويداء بتوصيفها سياسياً مع هذه الجهة أو تلك، فهذا معناه أن الاستعصاء قائم.
في حين أن البحث عن مقومات الحل السوري عبر البناء على المشتركات السورية تحت عنوان المظلومية السورية واحدة مهما اختلفت مسبباتها الطارئة، يستلزم الحوار السوري وهو البوابة الأوسع للوصول إلى التغيير السياسي وتحقيق العدالة الانتقالية وجبر الضرر، ما يستلزم عدم الاكتفاء بتوصيف الحل السياسي وفقط، بل البحث بأدواته وطرقه.
وهذا ما تحاوله السويداء إلى اليوم، بالانفتاح والحوار مع كل الفعاليات السورية حتى وإن كانت متناقضة أيديولوجياً، وهذا لا يعني أبداً حوارها مع قوى الأمر الواقع العسكرية القائمة، سواء كانت من سلطة النظام أو شمال شرقي سوريا أو شمال غربي سوريا، فمشروع التغيير السياسي يستبعد قوى العسكر أياً كانت صفاتها، ما يتطلب تنشيط الحوار السوري والتظاهر السلمي وحمايته من المنزلقات العنفية أو الخذلان، وهذا عمل يجب أن يستمر ويتابع بحرص ومسؤولية مهما كانت صعوباته.