لا جنّة على هذه الأرض!

2024.07.11 | 06:51 دمشق

4435555555555555
+A
حجم الخط
-A

زعمت التيارات السياسية بتلويناتها المختلفة التي تشكلت في عالمنا العربي منذ قرن من الزمان أنها تسعى لبناء حياة سعيدة لجمهورها خصوصاً، ولعموم الناس في بلادها، لدرجة غالى البعض في قدرة أيديولوجيته السحرية على بناء عالم يشبه "الجنة"، كما ذكرتها الأديان السماوية، كجزاء للعمل الصالح الذي يقوم به المؤمن، ورحمة من الله قبل كل شيء بعباده.
لكن مع مرور الزمن، وبعد وصول تلك التيارات إلى السلطة في أمكنة مختلفة، وبوسائل مختلفة، من الانقلابات إلى الثورات والانتخابات، وما قدمته تلك السلطات لم يصل إلى جزء مما وعدت به، إن لم يكن مناقضاً له، فبدل الحرية، استعبدت الناس، ومقابل الوحدة، قتلت الكثيرين دفاعاً عن حدودها المرسومة، وبدل الاشتراكية، راكمت الثروة في جيوبها. باختصار، خلقت الجحيم بدلاً من الجنة الموعودة.

الحركات الشيوعية

قدمت الحركات الشيوعية تصوراً لعالم ما بعد الرأسمالية يتعلق بالدولة والسلطة والملكية، حيث اعتبرت الدولة أداة لسيطرة طبقية غايتها الاستغلال، وبالتالي بزوال أساس الاستغلال، وهو الملكية الخاصة، ينتفي مبرر وجودها.

عوضت عنها بمرحلة تسيطر فيها البروليتاريا وحزبها الطليعي على السلطة بغية إقامة وترسيخ دكتاتورية البروليتاريا. وفي موضوع الملكية، نادت بملكية العمال لوسائل الإنتاج، وبالتالي الأرباح، وكان شعارها الشهير: "من كل حسب قدرته لكل حسب حاجته".

أتت سيطرة الحزب الشيوعي في روسيا، التي كان يعدّها ماركس بلداً متخلفاً، على عكس توقعاته حول احتمالية قيام الثورة في البلدان المتطورة صناعياً، في لحظة تاريخية اقتنصها لينين. لكن مسار الثورة القائمة على أساس الرؤية الماركسية حول الدولة والسلطة والملكية كان عكس تلك التوقعات والطروحات.

فعلى مستوى الملكية، تبدّل المالك من جهة خاصة إلى جهة اعتبارية، وهي السلطة/الدولة تحت اسم البروليتاريا، واستمر العمال في بيع قوة عملهم مقابل أجر، والقيمة الزائدة تذهب إلى الجهاز الحاكم، من دون حق للعمال -مالكي وسائل الإنتاج- بمساءلة المالك، فالمالك هنا لا يستغل ولا يظلم كما يزعم، فهو الحزب المتسلح بالنظرية الماركسية. وفيما يخص السلطة/الدولة، فقد بنت أقوى أجهزة المخابرات والجيوش في العالم، ناهيك عن الكادر البيروقراطي المرعب التابع كلياً للحزب والمخابرات، تلك الأجهزة التي مارست أكبر عمليات تطهير وتصفية عبر التاريخ بين أعضاء الحزب وخارجه، فكان ضحاياها بالملايين، إضافة إلى تأسيس نمط فريد من الاستبداد غطى في فترة ما كثيراً من دول العالم قائماً على: الحزب الواحد والمخابرات المسلحين بنظرية لا يأتيها الخطأ.

رفعت الأحزاب الشيوعية شعار محاربة الفاشية وهادنت سلطات الاحتلال، ووصل الأمر إلى حد تطوع بعض "الرفاق" مع جيوشها لمحاربة الفاشية.

الأحزاب الشيوعية في العالم العربي

تأسست الحركات الشيوعية في بلادنا العربية في فترة العشرينيات من القرن الماضي، حيث تقاسمتها الدول الاستعمارية الكبرى بقرار من المركز الشيوعي -موسكو-. فكانت منذ البداية أجهزة دعائية ممسوخة عن الحزب الأم، بمعنى أنها لا تمتلك السلطة ولكنها تمتلك النظرية التي لا تخطئ وتبرر كل أفعالها. فكانت طروحاتها تتوافق مع سياسة المركز أكثر من وقائع ومطالب الناس في بلدانها، حيث غاب عنها الهم الوطني المتمثل بتحرير البلاد من الاستعمار، وخاصة في فترة الحرب العالمية الثانية وما قبلها، حيث كانت سياسة المركز التحالف مع الدول المستعمرة هنا ضد ألمانيا النازية. رفعت شعار محاربة الفاشية وهادنت سلطات الاحتلال، ووصل الأمر إلى حد تطوع بعض "الرفاق" مع جيوشها لمحاربة الفاشية.

ورغم نمو حجمها في فترة الخمسينيات، إلا أن طروحاتها السياسية ظلت تبشيرية أكثر مما هي واقعية، تبشر بالنعيم من خلال أيديولوجية تبسيطية ودعائية، وركزت كل مطالبها في القضايا المطلبية فتحولت بشكل ما إلى نقابة أكثر من كونها أحزاباً سياسية، سرعان ما ارتهنت للأنظمة "التقدمية" كما أراد المركز.

الحركات الإسلامية

نشأت الحركات الإسلامية في مرحلة تالية لتأسيس الحركات الشيوعية، وتحديداً مع بداية الأربعينيات من نفس القرن، معتمدة على مرجعية دينية -إلهية، حيث أعطت لنفسها حصانة من الخطأ سلفاً، وطرحت تصوراتها عن العالم المقبل في ظل حكمها أو خلافتها مسترشدة بخليط من تجارب سابقة عرفتها "الدولة" الإسلامية، بدءاً من عصر الدعوة إلى الخلافة الراشدة إلى فترات صعود الخلافتين الأموية والعباسية، من دون نظر وتمحيص في تلك التجارب.

فكانت انتقائية وذات غلاف أخلاقي يصور العالم المقبل بأنه محكوم بالعدل والمساواة، ينعدم فيه الفقر والعوز وتصان كل الحقوق فيه، فهي تستند إلى أخلاق النبي الكريم محمد، وتضحيات أبي بكر وعدالة عمر، وصولاً لفترات ازدهار الدولة في عهد الأمويين والعباسيين، حيث توسعت بشكل كبير وأصبحت أهم القوى الحاكمة على مستوى العالم.

بقيت الحركات الإسلامية بعيدة عن السلطة طيلة القرن الماضي، حيث تحالفت فترات مع السلطات ولوحقت في فترات أخرى، وتعرضت لعملية اضطهاد كبيرة. مع اندلاع ثورات الربيع العربي الأخيرة، ولأسباب عديدة، تسلمت السلطات في بلدين: تونس (النهضة) ومصر (الإخوان المسلمون). لكن تعثرت تلك التجربتان بفعل عوامل ذاتية/داخلية وأخرى خارجية.

وأسباب تعثرها الذاتية تلخصت في البعد الكبير بين المثال/الأيديولوجية والواقع، إذ لجأت إلى الاحتكام للمثال متجاهلة الوقائع إلى أن كسر عنقها، ناهيك عن رغبتها في استخدام الدولة كأداة لتحقيق أهدافها، فأدخلت البلاد في مرحلة لا يُحسَد عليها الجميع، حيث سيطرت من جديد قوى الاستبداد بغض النظر عن الواجهة، التي رهنت البلاد وعرضتها في المزاد.

انتهجت الحركات القومية خطاباً شعبوياً يعادي "الإمبريالية" ويدعو إلى الوحدة، داعية المواطن إلى تحمل الفقر وغياب الحريات ونقص الخدمات حتى تحقيق الاستقلال التام.

الحركات القومية

وكانت الحركة القومية ثالث تلك التيارات التي تخيلت أن شعاراتها يمكن أن تحول الوقائع وتبني الوطن الكبير من المحيط إلى الخليج، الذي يسوده العدل والحرية وينعم كل فرد فيه بما يحتاجه. فبنت "نظرية" تخلط بين تخيلات وتجارب مختلفة مستمدة من واقع الغير أيضاً. لكن ما ساعدها على الانتشار بداية طرحها الوطني المتمثل بطلب الاستقلال، والحلم ببناء ذلك الوطن الكبير في مواجهة قوى الاحتلال الغربية.

دخلت مرحلة الاختبار بعد أن وصلت إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية، مستلهمة نموذج الحزب الواحد، الذي كان أحد الأقطاب في ذلك التاريخ، مرسخة سلطتها من خلال بناء أجهزة مخابرات تحمي سلطتها وحزبها، في ظل خطاب شعبوي يعادي "الإمبريالية" ويدعو إلى الوحدة، داعية المواطن إلى تحمل الفقر وغياب الحريات ونقص الخدمات حتى تحقيق الاستقلال التام، وهو مصطلح تحتكر تفسيره لتبرير كل أفعالها الشنيعة.

التجارب الثلاث

لم تكن الحركات القومية التي حكمت في أكثر من بلد عربي شاذة عن النموذجين السابقين. فما هو مهم أن تستمر في السلطة، فبررت الهزائم وقمعت المواطن بحجج واهية، واختلقت الحروب البينية دفاعاً عن سلطاتها، حيث كان قتلى الحدود البينية (العربية-العربية) أكبر من ضحايا حروب "تحريرها" التي لن تنتهي. والأسوأ من ذلك، عمدت إلى تفتيت نسيج المجتمعات وفق أسس مذهبية وعرقية، وبنت "مؤسسات" سلطتها وفق ترتيبات جديدة أدخلت الناس في صراعات "وجودية" تعتمد مبدأ إما نحن أو لا أحد، إما أن نستمر أو لتذهب البلاد والعباد إلى الجحيم، وهو ما نعيشه اليوم في البلاد التي حكمتها حركات قومية (سوريا والعراق واليمن).

تكشف التجارب الثلاث عن مدى التناقض بين الخطاب/النظرية والواقع، وتشير إلى أن الوقائع هي التي تصمد في النهاية، وتلوي عنق النظريات إن لم تسقطها نهائياً. لكن بثمن باهظ يتكبده الناس والبلاد، وهذا يدعو إلى إعادة التوازن بين الخطاب/النظرية والوقائع، بمعنى تجسير المسافة بين النظرية والواقع المتغير. هذا الواقع الذي يفرض على النظرية أن تستجيب له لا العكس، والتوقف عن التعامل مع النظريات على قاعدة دينية خلاصية، بمعنى أن تعطي لنفسها الحق في امتلاك الحقيقة وتفسيرها ماضياً ومستقبلاً، وتقدم نفسها صاحبة الحلول السحرية للمشكلات التي تتغير باستمرار، بينما تستمر في جمودها مدعية صوابية طروحاتها ضد الواقع الذي يفقأ العيون، ناسبة ما يحل في البلاد إلى قوى أخرى غير مرئية.

الجنة حلم سماوي، بما فيها من سعادة ونعيم، يعد بها العلي القدير. أما على الأرض، فليست هناك جنة، وإنما صراعات وتغيرات وقوى وفاعلين وممكنات، يمكن أن تتحول إلى وقائع إن امتلكت حوامل اجتماعية. وإن بقيت فاقدة لها فلن تعدو عن كونها نثرًا وشعرًا وأهازيج، لكن ثمنها في النهاية دم ودمار، ناهيك عن النتائج الكارثية التي تخلفها، وأهمها: فقدان الإيمان بكل السياسيين، وانعدام الثقة بالقدرة على الخلاص والشعور المزمن بالخيبة.