في كتاب "التلفزيون وآليات التلاعب في العقول"، حلل عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، دور التلفزيون بوصفه شكلاً من أشكال العنف الرمزي، الذي تمارسه الحكومات التي تمتلك المعلومات وتتحكم بوسائل الاتصال، لتفرض بذلك هيمنتها ورؤيتها على المتلقي.
وبحسب بورديو فإن المسلسلات الدرامية ليست مجرد برامج تلفزيونية تُعرض للتسلية أو التثقيف، بل إنها إحدى الأدوات الأكثر فاعلية في الضبط والتحكم الاجتماعي في المجتمعات الحديثة.
لعل التلفزيون فقد جزءاً من فعاليته اليوم بعد أن تمكنت المنصات الرقمية من سحب البساط من تحته، حتى بات من غير المجدي أن يمارس التلفزيون دوره الرئيسي بتحديد المعلومات التي يتوافق إرسالها أو حجبها مع مصالح الأنظمة الحاكمة في الوقت الذي أصبحت فيه المعلومات متاحة للتداول عبر منصات بديلة؛ لكن ذلك لا يعني أن التلفزيون بات يؤدي دوراً مختلفاً، ولا سيما في الدول التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية مثل سوريا، التي ما تزال تحاول بشتى الوسائل أن تفرض رقابتها الكاملة وهيمنتها على جميع وسائل الاتصال.
وفي التلفزيون السوري الذي أنكر ثورة وثقتها ملايين الفيديوهات، بالتأكيد لا تُعرض المسلسلات بغرض التسلية بل هي بغالبها دروس توجيهية، تعلّم المواطنين الخضوع والطاعة وتقدم لهم وصفات جاهزة لترشدهم إلى الطريقة التي يكونون فيها "مثاليين".
فيروز والقردة الحكيمة الثلاث:
يعلل البعض انحدار سوية الدراما السورية بعد الثورة بكونها أصبحت دراما مسيسة، يقوم النظام باستثمارها ويدس فيها أفكاراً مسمومة لتلعب دوراً فاعلاً في التلاعب بعقول المشاهدين.
هذا الرأي وإن كان فيه جانب من الصحة، إلا أنه يغفل الجانب الآخر من الحقيقة، فالدراما السورية كانت مسيسة منذ نشأتها، فهي وكل الفواصل التلفزيونية الترفيهية تخضع لمعايير التلفزيون السوري الرقابية وتساهم بشكل واضح برسم الحياة النموذجية التي يفرضها النظام على المواطنين. لذا فإن سبب تراجع شعبية الدراما السورية لا يتعلّق بتغير دور الدراما، بل يتعلق بالتغييرات التي فرضتها الرقابة السورية على صورة المواطن المثالي فيها.
"لا أرى، لا أسمع ولا أتكلم"، هذه الجملة المستعارة من الإرث الثقافي الياباني والتي ترد في شارة مسلسل "دنيا"، كانت تمر أيضاً في عشرات المسلسلات السورية القديمة، وخصوصاً المسلسلات الكوميدية لتوصيف الحالة المثالية التي يجب أن يكون عليها المواطن، وفي بعض الأحيان ترفق هذه العبارة بجمل توكيدية تشير بشكل مباشر إلى وظيفتها، كما هو الحال في مسلسل "بطل من هذا الزمان" حين يقوم "سعيد النايحة" (أيمن زيدان) بالصراخ: "أنا مواطن مثالي، لا أرى ولا أسمع ولا أتكلم"؛ وبالطبع لا تغير النبرة الساخرة من مضمون الرسالة التي حفظها الجميع. وأما المسلسلات الواقعية الاجتماعية، فكانت تتضمن حتماً شخصيات تجسد بشكل صريح شخصية المواطن المثالي، المثقف المعجون بالطاعة، الذي ينتقد بشدة كل مظاهر الأمركة والعولمة التي تجتاح البلاد، لكنه يسلّم بحكمة ورجاحة عقول أصحاب النفوذ؛ فعلياً يمكن أن تشاهد شخصية كهذه في كل مسلسل، شخص شاعري وهادئ، يستمع صباحاً لفيروز ويردد شعارات اليسار العربي التي يتبناها محور الممانعة، لكنه كغيره من الشخصيات، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم، وإذا ما تكلم فإن صوته سيتحد لن يخرج عن الجوقة ولن ينتقد سوى الغزو الثقافي الغربي وسياسة القطب الواحد.
كاشفو المؤامرات والجنود المغاوير:
بعد اندلاع الثورة السورية، حاولت الدراما التي تتبنى إيديولوجيا النظام الإعلامية أن تقدّم مفهوما جديدا لشخصية المواطن المثالي؛ فالصمت لم يعد كافياً في هذه المرحلة، وبات فجأة التعبير عن الولاء ضرورياً
بعد اندلاع الثورة السورية، حاولت الدراما التي تتبنى إيديولوجيا النظام الإعلامية أن تقدّم مفهوما جديدا لشخصية المواطن المثالي؛ فالصمت لم يعد كافياً في هذه المرحلة، وبات فجأة التعبير عن الولاء ضرورياً؛ فتراوحت صورة المواطن المثالي في هذه الحقبة ما بين شخصيات المثقفين الذين يتمتعون ببصيرة ثاقبة تمكنهم من كشف المؤامرات الكونية على سوريا، وما بين الجنود الذين يضحون بحياتهم في سبيل القائد والوطن؛ وكان لصورة الجندي الغلبة في النهاية، فحتى سنة 2018 أنتجت فيها العديد من المسلسلات التي صوّرت الجندي السوري بصورة فائقة، ليكون الجندي المغوار الذي يخوض المعارك بحلته النظيفة وتتهافت عليه النساء.
بعد أن فشلت شركات الإنتاج السورية بتسويق معظم أعمالها سنة 2018، طرأت العديد من التغييرات القسرية على مسار الدراما السورية، فحاول صنّاعها أن ينظفوها من آثار الحرب ليتمكنوا من إعادة تسويقها، وبدأ إعلام النظام الرسمي والبديل يستخدم مصطلح "دراما ما بعد الحرب". لكن في هذه الدراما ضاعت ملامح شخصية المواطن المثالي، ما بين السمات الجديد والقديمة وما بين الرغبة بالتخلص من حملها الثقيل. وذلك ما يمكن أن نرصده في المسلسلات الواقعية الاجتماعية التي عُرضت في الموسم الرمضاني الأخير:
-
ضيوف على الحب:
يصور "ضيوف على الحب" شخصياته المثالية من خلال العديد من النماذج التي تمتلك سمات متفاوتة، يمكن اختزالها بسمتين رئيسيتين، حيث يتم طرح مفهوم جديد لصورة المواطن المثالي من خلال شخصية "صباح" (شكران مرتجى) التي تحتضن الجميع وتضغط لتحقيق المصالحات. وأما السمة الأساسية الثانية التي يجب أن يتحلى بها كل مواطن مثالي، هي البقاء في البلد والصمود رغم كل الضغوطات.
-
على صفيح ساخن:
يبدو مسلسل "على صفيح ساخن" تائهاً في هذه النقطة، فعلى الرغم من تقديمه مجموعة من الانتقادات والتحذيرات لكل السوريين المتخاذلين الذين تخلوا عن وطنهم، لكنه لا يكوّن صورة واضحة عن شخصية المواطن المثالي، وقد يكون السبب في ذلك بأن المسلسل بالأساس يتبنى فكرة يتداولها الإعلام الرسمي في الآونة الأخيرة، الذي بات يلقي اللوم على الشعب ويحمله مسؤولية كل المصائب التي حلّت بالبلاد. وبالتالي فإن ملامح شخصية المواطن المثالي هي حاضرة في حوارات المسلسل لكنها غير قابلة للتحقق.
-
خريف العشاق:
يهرب المسلسل إلى الماضي، ليعيد تكوين صورة المواطن المثالي الغائبة عن الدراما في العقد الأخير؛ صورة أجريت عليها بعض التعديلات، لتصبح أكثر ديناميكية لتشمل أبعادا جديدة؛ فالمواطن المثالي هو ذلك الذي يعود كلما تغرّب، ولا تمنعه الإغراءات الخارجية التي يتعرض لها برحلته عن مواصلة أداء الدور ذاته.
-
بعد عدة سنوات:
على خلاف "خريف العشاق"، لا يتمكن "بعد عدة سنوات" من استثمار الخطوط الزمنية المتداخلة والقديمة لرسم ملامح شخصياته المثالية، التي تبدو غير ناضجة هنا. إذ إن الشخصيات المثالية في المسلسل قد ترتكب العديد من الحماقات، لكنها شخصيات خاضعة بدورها لمنطق انهزامي يحكمها، فعليها تقبل كل الخيبات دون أن يزعزع ذلك الولاء؛ فالشخص المثالي وفقاً لـ"بعد عدة سنوات" من الممكن أن يكون زير نساء وأن يقبل بتعدد الزوجات ومن الممكن أن يكون نزقاً وصعب العشرة، لكنه بالضرورة هو شخص متمسك بوطنه ولا تغيره أي إغراءات خارجية ولا يتمرد على أي سلطة مهما شعر بالظلم، وكأنه جندي ارتدى الزي المدني.
وتبدو الملامح العامة لصورة المواطن المثالي في الدراما السورية لعام 2021 تتوافق بشكل كبير مع الخطابات الإعلامية التي رافقت مسرحية الانتخابات الرئاسية؛ فقد أعلن أيمن زيدان سبب انتخابه لبشار الأسد، بأنه الرجل الذي صمد ولم يتخلَّ عن الوطن. وهو الخطاب الذي تبنته المحطات الرسمية وكل المواطنين الذين مروا على الشاشة، هم جميعاً شخصيات مثالية صمدوا في الوطن ولم يخضعوا لإغراءات الدول المتآمرة وانتخبوا "الرئيس المناسب" لأنه مثالي مثلهم، صمد مثلهم ويعاني مثلهم. وبانتصار الأسد إذاً سينتصر العالم المثالي الذي ساهمت الدراما برسمه، وذلك لا يعني بالضرورة أن الظلم سيرفع أو أن الفقر والذل سينتهي، فعلى المواطن المثالي أن يلتزم بدوره فقط من دون أن يطالب بأي مقابل.