لم يكتشف الفلسطينيون أنهم وحدهم مع الحرب الإسرائيلية على غزة والتي اندفع عالم الغرب لشرعنتها. سبق لهم أن اكتشفوا هذا الواقع، ولكن حجم المجازر غير المسبوق وسقوط كل المحرمات جعل ما كان يمكن أن يتطرق إليه الشك يقينا فلسطينيا عاما عابرا للسياسة والتحليلات.
يكرر هذا السياق الفلسطيني كتلة المشاعر السورية التي تكرست وتكثفت مع التجاهل الكوني لمأساتهم، مع ترك الأسد وحلفائه يذبحون السوريين الذين هبوا مطالبين بالحرية منذ 12عاما.
عمد الأسد والجهاز العسكري الإسرائيلي إلى تبني المقاربة نفسها في التعامل مع السوريين والفلسطينيين والتي تقوم على توسيع دائرة المجزرة والفظائع والأهوال حتى تصبح عصية على التصديق، وأقرب إلى الخيال. ألم يقل من تسنى لهم الاطلاع على الوثائق المهربة والمصورة عن تعذيب الأسد للسوريين كما وردت في تقرير قيصر وسواه إنهم لم يسبق لهم أن شاهدوا مثل هذا الهول، وإن ما يتضمنه يفوق أهوال الحرب العالمية الثانية. الأمر نفسه تكرره كل المنظمات الإنسانية والتقارير الدولية والتغطيات الصحفية حول ما يحدث في غزة لناحية أن ما يحدث ليس له مثيل في تاريخ المنطقة.
نعلم أن ما شرعن ذلك الخراب العميم الذي أصاب غزة والذي لا يبدو أنه سيتوقف في القريب العاجل كان دمار حلب وحمص وغيرها من المدن السورية، وأن ما جعل الدم الفلسطيني رخيصا ومعدا للإهدار بمثل هذه المجانية والوقاحة هو السكوت على إهدار الدم السوري.
التعبير السوري عن هذا الشعور صار لشدة تكراره نوعا من السيكولوجيا السورية العمومية والتي قد يكون تمظهرها الأبرز في ذلك الشعار الشهير "يا الله ما لنا غيرك يا الله"
بلْور ذلك السكوت صيغة إهدار شاملة للدم في المنطقة، وكرس شعورا عاما بأن من يطالب بحريته أو يقف في وجه الاحتلال الإسرائيلي بغض النظر عن هويته وعقيدته سيكون وحيدا في مواجهة آلة الإبادة. التعبير السوري عن هذا الشعور صار لشدة تكراره نوعا من السيكولوجيا السورية العمومية والتي قد يكون تمظهرها الأبرز في ذلك الشعار الشهير "يا الله ما لنا غيرك يا الله" والذي استدعي بعمومية وشيوع مع تراكم المجازر وسط الصمت والتجاهل.
وكما بدا السوريون بلا أهل في المنطقة والعالم يظهر الفلسطينيون عموما وليس أبناء غزة وحدهم بلا أهل، ويتخذ دمهم المهدور صيغة استثمارات متعددة ومتشعبة تشمل كل خرائط الصراعات المندلعة في المنطقة والعالم.
العنوان الفلسطيني فجر بنية الخلافات الداخلية في بلدان المنطقة وتحول إلى سجال يكشف عن مدى غياب الشأن الفلسطيني عن المشهد واستبداله بتأويلات سياسية وثقافية تضعه في ما لا يحتمله، وتفصله عن واقعه وخصوصيته. في لبنان على سبيل المثال انطلقت مجموعة تظاهرات متباينة حاولت كل واحدة منها أن تحقق نوعا من براءة الذمة مع المجزرة القائمة في موازاة شحنها بعناوين طائفية جعلت تناول الشأن الفلسطيني في اللحظة الحالية يتخذ شكل إحياء مشهديات الحرب الأهلية.
وفي كل ما جرى في العالم العربي برز ذلك التناقض بين المواقف والمشهد، فبعد أن شعرت الأنظمة أن التحمس لفلسطين الآن يمكن أن يكون مدخلا لتمكين الفساد والتعمية على ممارسات السلطات التي انتبهت إلى أن ترك التعبير عن التعاطف مع فلسطين يجري في المجال العام خطير، لأن من شأنه أن يطلق موجات اعتراض شاملة تصل بين الموضوع الفلسطيني والاعتراض على السلطات وتغري باحياء الثورات. لذا كان احتلال المشهدية الفلسطينية للساحات العامة في بعض البلاد حدثا عارضا لم تلبث السلطات أن عمدت إلى قمعه وتسفيهه. البلاد التي لا تزال تسمح بالتعبير الفلسطيني تعمل على توظيف المشهد في سياقات يصعب التفاهم معها وتسييلها في مواقف سياسية، وتستعمل كواجهة لخطاب يتعامل مع الشأن الفلسطيني كمشكلة يجب التخلص منها.
الفلسطينيون كانوا حاسمين في التعبير عن ذلك الإحساس العميق بأن لا أحد يحبهم وأنهم متروكون لمصيرهم .الشاعر والمترجم الفلسطيني سامر أبو هواش نشر قصيدة في جريدة النهار بعنوان "لم يعد مهما أن يحبّنا أحد" يقول أحد مقاطعها:
لم يعد مهما أن يحبّنا أحد
القذائف حرّرتنا من آذاننا
التي كنا نسمع بها كلمات الحبّ
والصواريخ حرّرتنا من عيوننا
التي كنا نرى بها نظرات الحبّ
والكلمات السود حرّرتنا من قلوبنا
التي كنا نرعى بها كلمات الحبّ
الفلسطيني الذي تخبر عنه كلمات هذه القصيدة قد بات عاجزا عن التفاعل مع العالم ومع الوجود وعن استقبال المشاعر. لقد أقفل الباب على ألمه، وركن إلى وحدته بوصفها مكانه الأخير والنهائي. نعرف أن ما يقوله هواش الآن أمام المجزرة الجارية سبق أن قاله السوريون بطريقتهم الخاصة.
رمت أوروبا قبل أميركا بكل تراث العقلانية والتنوير في سلة المهملات ووقفت إلى جانب إسرائيل، وعملت على استهداف كل ما يمت إلى فلسطين بصلة
لا بد من العودة الى السياسة والتعقل. تنتشر هذه الدعوة في كثير من الصحف ووسائل الإعلام ويتبناها كتاب رأي ومثقفون، كما تدافع عنها جهات ومؤسسات عديدة ولكن لا أحد يجهد نفسه في محاولة تفسير الهستيريا الجماعية التي أصابت الغرب كله إزاء المشهد الغزاوي بحيث رمت أوروبا قبل أميركا بكل تراث العقلانية والتنوير في سلة المهملات ووقفت إلى جانب إسرائيل، وعملت على استهداف كل ما يمت إلى فلسطين بصلة.
كان ذلك جنونا عارما بتمام التوصيف وكذلك كان التعامل الإسرائيلي والعربي مع السوريين والفلسطينيين، حيث أقفلت في وجوههم كل سبل الحياة والحلول في مسار مقصود وممنهج عمل على سحب إنسانيتهم وحقهم في الوجود. هل كان العالم يعلم أنه يجعل من السوري العادي والفلسطيني العادي الكائن /القنبلة الجاهز للانفجار بشكل يستقل عن السياسة ويستعلي عليها ويتجاوزها.
هل من حلول ممكنة من دون فتح الباب أمام الحل العادل لقضية السوريين والفلسطينيين؟ وهل من مسار واضح يقول إن الأمور قد تسلك هذا الدرب؟
التطبيع المجاني مع الأسد ومسار السلام مع إسرائيل والذي فجرته بنفسها مرارا وتكرارا يجيب بوضوح عن كل تلك الأسئلة. القبر الكبير الذي أسقط العالم فيه الشعبين السوري والفلسطيني سيتسع ليشمل العالم بأسره. تلك الراديديكالية الإلغائية والاستعلائية في التعامل مع مأساتيهما لن تولد مسارات سياسة وعقلنة بل ستخلق حقدا فصيحا يمتلك كل الأسباب ليكون الممثل الشرعي والوحيد للشعوب المقهورة.