من يشاهد السوري أنس الخليفة وهو يقود قاربه بكل عزم وقوة وسط النهر ويجدف بضربات ثابتة وتعابير وجهه تنم عن تركيز عميق، من الصعب أن يصدق أنه بدأ يتدرب على ذلك قبل أقل من ستة أشهر، كما لا يمكن للمرء أن يلاحظ أنه مقعد.
تعرض أنس لإصابة في الحبل الشوكي في شهر كانون الأول 2018 وذلك عندما سقط من سطح بناء مؤلف من طابقين في أثناء تركيبه لألواح الطاقة الشمسية في بيته بألمانيا، ما تسبب بإصابته بالشلل في أطرافه السفلية.
وعن ذلك يحكي أنس فيقول: "بعد الحادثة لم أكن أدري ماذا عساي أن أفعل، فلم يعد بوسعي أن أعمل أو أن أمشي، أي إن حياتي انتهت، بيد أن هذه الرياضة غيرت حياتي بأكملها، فالإعاقة هي إعاقة الذهن فقط، وذلك لأنه بوسع الإنسان القيام بأي شيء، حتى لو فقد ساقيه أو ذراعيه، كما وجدت كثيراً من الطيبين الذين وقفوا بجانبي دوماً".
ومن بين هؤلاء الطيبين كانت اللاعبة الأولمبية البلغارية أوغنيانا بيتروفا التي دربت كثيرين على التجديف وركوب القارب في العديد من البلدان، مثل تركيا وإيران والصين. إذ بعد مرور عام على الحادثة، التقت هذه الرياضية بأنس في ناد للقوارب أقيم في مدينته حيث كانت تعمل مشرفة على المدربين، أما هو فقد أتى إلى هناك بعدما نصحه معالجه الفيزيائي أن يتدرب على التجديف.
اقرأ أيضاً: نائب بريطاني: بريطانيا استقبلت النسبة الأكبر من اللاجئين السوريين في أوروبا
وتحدثنا المدربة عن أنس في ذلك اللقاء فتقول: "رأيت شاباً قوي البنية وفي عينيه نظرة حزن وهو يجلس على كرسي ذي عجلات، فسألته: أترغب بممارسة الرياضة معي؟ أتود أن تتعلم التجديف؟ إليك القارب، وبوسعي أن أعدك للذهاب إلى طوكيو، فرد بالسؤال: وماذا سيحصل في طوكيو؟ أجابته: ستشارك في دورة الألعاب الأولمبية للمعاقين التي يحلم الجميع بالمشاركة فيها".
نجاح بالرغم من الصعوبات
في أواخر شهر حزيران، أي بعد نحو عام واحد على جلوس أنس للمرة الأولى في قارب، وقع الاختيار على أنس ليكون من بين الرياضيين الستة في فريق اللاجئين الذي سيسافر إلى أولمبياد طوكيو.
أخذ أنس يتدرب ثلاث مرات في اليوم على مدار أيام الأسبوع حتى يحقق هدفه، فاتبع نظام تدريب قاس، لدرجة أصبح معها بحاجة لمساج لرقبته وظهره كل ليلة، ويعلق أنس على ذلك بقوله: "أحتاج للبروتينات والفيتامينات وأمور أخرى حتى أدخل منافسة على مستوى رفيع، وأحلم أن يتم التعامل معي كبقية الرياضيين".
غير أن طريقه كان وعراً، وذلك لأنه اضطر للتوقف عن التدريب لمدة ستة أشهر بسبب تفشي الجائحة، ولم يعد بوسعه مواصلة التدريب حتى أواخر شهر آذار، أي قبل خمسة أشهر فقط من انطلاق الألعاب الأولمبية.
وبحسب ما ذكرت مدربته، فإن من سبقه من الرياضيين احتاجوا لسنة كاملة حتى يستعدوا لتلك المسابقة، ولهذا تقول: "لا أجد كلمات تصف ما فعله أنس، حيث لم يكن يقول: هذا كافٍ، وأنا متأكدة من أن أحداً لا يمكنه أن يفعل ما فعله أنس".
اقرأ أيضاً: لاجئ سوري يطالب متطرفا بريطانيا بـ190 ألف جنيه كتعويض
من سوريا إلى ألمانيا
يقيم أنس في شقة مع شقيقته وولديها بعدما تركا كل شيء خلفهما وهاجرا بسبب الحرب التي قامت قبل عشر سنوات.
وهنا يسرد أنس كيف عبر من تركيا إلى اليونان على متن قارب، وكيف نفد الوقود في لحظة ما، فيقول بصوت متهدج من فرط الانفعال: "أخذت الأمواج تتقاذف القارب يميناً ويساراً، فبقينا ننتظر لمدة نصف ساعة، ثم أعلن أحد الشبان أن بوسعه إصلاح القارب، ولكن على الرجال أن يقفزوا إلى الماء، ولم يكن لدينا أي خيار آخر".
وهكذا قفز الرجال إلى الماء، فبقيت النساء والأطفال على متن القارب، ثم تمكن الشاب من إعادة تشغيله، فوصل الجميع إلى بر الأمان في نهاية الأمر، ويعلق أنس على ذلك بقوله: "عندما نفد الوقود، اعتقدنا أننا سنموت، إلا أن أحداً لم يسمع صراخنا وبكاءنا ونحن وسط الماء".
اقرأ أيضاً: قصة عائلة سورية.. من لاجئين سوريين إلى مواطنين كنديين
أخبار مفجعة ومحفز جديد
كان أنس يتحدث إلى أخيه ويفضي بأسراره إليه خلال فترات حياته العصيبة، بيد أن شقيقه قتل في سوريا قبل ثمانية أشهر، ولم يكن أنس قد التقى به منذ أن تفرق شمل الأسرة في عام 2011، غير أن مدربته شجعته وأخبرته أن شقيقه يطلب منه أن يواصل التدريب، وعن تلك المرحلة تتحدث مدربته فتقول: "كانت صدمة بالنسبة لي، لأني أعرف أن أنس موهوب، وبوسعه أن يغير حياته بوساطة هذا القارب، ولهذا قلت له: يجب عليك أن تتابع ممارستك لهذه الرياضة لأن شقيقك كان يحبها، ولهذا يجب عليك أن تتابع من أجله. وهكذا وبنهاية شهر آذار، عدنا للتدريب من جديد، فكنت أشعر بأن هذه الطاقة وهذا الحافز للتدريب منبعه شقيقه، إذ أخذ أنس يقدم أفضل ما لديه، بعدما دأب على القول: كل هذا من أجلك يا أخي".
وهكذا، استطاع أنس بمساعدة مدربته أن يعزي نفسه وسط كل تلك المصاعب، وأن يحقق حلمه في المشاركة في الألعاب الأولمبية، حيث يقول: "كان هدفي الأول في طوكيو هو الفوز بميدالية، أما هدفي الثاني فهو الفوز من أجل شقيقي، لكونه دعمني كثيراً".
اقرأ أيضاً: أزمات البرازيل تنعكس على حياة اللاجئين السوريين فيها
وبعد طوكيو، يعتزم أنس خوض بطولة العالم للتجديف التي ستجري في شهر أيلول، أما هدفه التالي فهو المشاركة في دورة ألعاب باريس التي ستجري في عام 2024.
المصدر: DW