كان على السوري أن يفتح عينيه طفلاً على علم البعث منذ بداية السبعينيات، وأن يطوق عنقه بالـ (فولار الكوري) وبالـ (جوزة) البلاستيكية التي تحمل شعار الطلائع كأهم عناوين البداية البائسة لمن أراد له القدر أن يولد في البلاد التي حكم عليها بأن تقع تحت وصاية الرفاق لأكثر من خمسين عاماً دون أن يستطيع أبناؤها النظر إلى أعلى من أنوفهم.
ثم كان عليهم أن ينشدوا أمام علم البعث في الصباحات الباردة والحارة (ياشباب العرب هيا وانطلق يا موكبي)، ويشدو صدورهم المنفوخة بأمر من مدرب الفتوة محدقين بالعلم المخاتل فيما راية الوطن تنتظر على سارية وحيدة في منتصف الباحة المدرسية مناسبة وطنية كي تأخذ نصيبها من تلك العيون.
المواطنون من الموالين وسواهم فلا بأس بوضع صورة عادية في صدر المنزل كعنوان ولاء طوعي أو منافق
وفوق كل هذه الرايات الحزبية والوطنية الكبرى والصغرى كانت تتربع الصورة الأغلى التي تكبر وفق الحب فمقاسات صورة الزعيم الأوحد والأفضل والمتفرد تعلو كل شيء في هذا الوطن الصغير، ومع ذلك ستجدها على كامل جدار مضافة رئيس البلدية والمختار والوجهاء، وفي وسط ساحة محافظة دمشق ستعلو كامل البناء، وكذلك بناء اتحاد الفلاحين، ومداخل ومخارج المدن والقرى، وأما المواطنون من الموالين وسواهم فلا بأس بوضع صورة عادية في صدر المنزل كعنوان ولاء طوعي أو منافق.
وكانت الحرب وارتفعت الرايات المختلفة بعد شهور من صراع رايات المنتفضين ومن بقي على ولائه، وخرجت في كل جهة رايات جديدة ملونة أو من دون ألوان، وجاءت من وراء الحدود رايات غريبة سوداء وحمراء لتملأ ما بقي من أمتار صامتة ولتجمع حولها البقية ممن لم يجدوا سبباً ليموتوا أويقتلوا حيث هنا في هذه البقعة لا مكان للأحياء بل لموتى الرايات التي لم يعد فوقها زعيم أو راية وطنية.
ذات يوم بالقرب من مدرسة ابتدائية تركية في غازي عينتاب وقف الناس دون حراك في الشارع يستمعون إلى نشيدهم الوطني، توقفت مثلهم فوحدي كنت من يمشي فيما هم تسمروا مع صوت الأطفال القادم من داخل المدرسة.. ثم فجأة تحركوا كما لو أن أحدهم أطلق أمراً بالتحرك إلى أن جاء الانقلاب على أردوغان بعدها بعام تقريباً كان مشهد البشر المندفعين إلى الشارع يروي حكاية قدسية العلم الوطني لدى هؤلاء فهو وحده من كان مرفوعاً بأحجامه المختلفة، وأما الهتافات فلم تذكر الرئيس أبداً كان فقط اسم البلاد فوق الجميع.
الدرس الآخر الذي شهدته حيث أعيش هنا في القاهرة هو كيف يتعاطى المصري البسيط مع (مصر) فهي الأم والملجأ والتاريخ، حارس البناء (البواب) وأصحاب المحال والبسطات التي تفترش الطرقات ومشجعو كرة القدم حيث الاحتفال الأبرز عندما يخوض المنتخب مباراة حاسمة أو تصفيات قارية ودولية، وحتى في الحوارات الكثيرة عن الفقر والغلاء والمهاجرين والسوريين الذين باتوا ظاهرة مصرية متفردة ومع أولئك الذين يرون أنه من الممكن أن يكون الحال أفضل.. تحسم بابتسامة مصرية خالصة سمراء هي أم الدنيا.
لم تعد صورة الزعيم وحدها من تعلو فوق الثكنات والبنايات وأعمدة الكهرباء ثمة شركاء جدد تحنى لهم الرؤوس والولاءات
في دمشق وغيرها من الأماكن التي خفت فيها صوت الرصاص والقذائف لم تزل الرايات موجودة على حالها فالجهات الأربع مملوكة لأصحاب النفوذ الذين يتقاسمون الأرض ومن عليها، وأما الوكلاء فلا يخجلون من راياتهم الدينية والمذهبية ورايات الداعم حتى أولئك الذين خرجوا ذات يوم لاستعادة راية جميع السوريين المسلوبة.
لم تعد صورة الزعيم وحدها من تعلو فوق الثكنات والبنايات وأعمدة الكهرباء ثمة شركاء جدد تحنى لهم الرؤوس والولاءات، وتلك الشوارع التي كانت تتباهى ذات يوم بحمل أطول راية وطنية غصت ساحاتها بالعلم الروسي في يومه مرددين عبارات الولاء والشكر فيما من بعيد ينتصب العلم السوري في حديقة تشرين شاهداً على وحدته وعزلته فكل الحكاية بدأت من استصغار تلك الراية لتعلو صورة القائد.