"أعلن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة عن نتائج المؤشر العربي 2022 الذي نفّذه في 14 بلدًا عربيًا؛ للوقوف على اتجاهات الرأي العام العربي نحو مجموعة من الموضوعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهو إنجاز وخطوة مهمة على صعيد العمل البحثي والأكاديمي الرصين، وإن لم تكن الأنظمة تهتم بقياس الرأي العام إلا بما يخدم المزيد من السيطرة، لكن "فتح الأعين" على واقع مُعاش يُعتبر ضمن الديناميات الفاعلة التي تنتهجها المراكز البحثية. وهو ما تتجنبه السلطات والحكومات، فتراها تلجأ إما لمنع مثل هذه المراكز للعمل، أو تخلق "مهزلات" مراكز تصدر نسب وتوصيات وفق مقاساتها، وتحتفظ بالأصل لنفسها؛ ليأتي دور علم النفس السياسي الذي تستغله السلطات في خلق رأي عام وفق مقاساتها. لذا فإن هذا الإصدار يُعتبر نقلة مميزة على صعيد أدوات القياس والبحث العلمي لقياس الرأي العام الشعبي، خاصة وأن النسب المئوية المنشورة تعبر عن التوجه العام للنُخب والشرائح الشعبية العربية في تلك الدول، وموقفها من حكوماتها وأنظمتها، وتطلعاتها المستقبلية، وآرائها حول قضايا مشتركة تهمهم جميعاً.
بالمقابل، فإن مشكلة النُخب الكردية السياسية الحزبية في سوريا، وبشكل أدق المتحكمين بمصادر التمويل والقرار، لا يدور في فلكهم العقلي أيّ رغبة أو فكرة في قياس الرأي العام، في حال كان يهمهم هذا الرأي أصلاً. فيكفي الاستدلال على حجم تغول الخطاب التخويني في مختلف وسائل الإعلام الكردية الحزبية، إلى فترة قريبة - حالياً شبه متوقف - ليتعرف المتابع نوعية الرأي بالآخر، وإهمال تلك الأحزاب موقف القواعد الاجتماعية منها، رُبما خوفاً من معرفة كيف يقيم المواطن موقفه من الأحزاب.
مشكلة هذه الأحزاب أن دوائر القرار في معظمها، يقوم أساسا على سياسة رفض الإصغاء والاقتناع بحديث القواعد والنخب السياسية الغير حزبية
ينطلق كاتب الأسطر من قناعة ثابتة بضرورة عمل الأحزاب الكردية ووجودها كحامل جمعي وواجهة سياسية للكرد للعالم الخارجي، لكن مشكلة هذه الأحزاب أن دوائر القرار في معظمها، يقوم أساسا على سياسة رفض الإصغاء والاقتناع بحديث القواعد والنخب السياسية الغير حزبية. ومعظمها لم يقدم المأمول منها، خاصة وأن غالبيتها لا تمتلك لا مكتباً إعلامياً، ولا أفكاراً جديدة، ولا تنظيمات يُمكن الاعتماد عليها في أي عمل بحثي ميداني.
فالإدارة الذاتية، وفي سعيها "للاستماع لرأي الشعب" أثناء اجتماعاتها مع مختلف الشرائح، تؤمن سيولة في مشهد الموافقة على سياساتها عبر حشد أكثر من 90% من الحضور من موظفيها والمحسوبين عليها أو الحاصلين على رواتب منها. في حين أن المجلس الكردي إما أنه ليس في معرض الاستماع للآخر، أو يُقيم اجتماعات صغيرة دون تغذية راجعة. وإذا ما تحدثنا بلغة بحثية، حول كيف تنظر/تفهم مختلف الأطراف الكردية رأي المجتمع المحلي؟ وما مدى ثقة القواعد الاجتماعية بهياكل الحكم أو سياسات الأحزاب الكردية الموجودة؟ فإنه من شبه المستحيل الحصول على إجابات تتوافر على نسبة معقولة من المصداقية العلمية؛ لغياب المراكز المهتمة بالمضمون والمصداقية على حساب الانتماء الحزبي.
فلا أحد منهم يدري كم هي حجم التكلفة الشهرية لمعيشة الأسر وحجم المداخيل الشهرية، وهذه تقع على عاتق الإدارة الذاتية أكثر كونها المتحكمة بكل الأقاليم الاقتصادية للمنطقة. لكن باقي النسب والمواضيع تخص الجميع مثل: النسبة المئوية للكرد المتبقين في الداخل، وكم هي نسبة المهتمين بالسياسة أو الحوار الكردي - الكردي، وماذا يفضل المقيمون في الداخل، الهجرة أم نجاح الحوار. كما أن الحديث عن الديمقراطية وحرية الرأي يكاد يكون إحدى المواد الأساسية على موائد الأفرقاء السياسيين الكرد، لكن لا أحد منهم كلف خاطره في معرفة كيف ينظر الناس على اختلاف شرائحهم للديمقراطية وهل نجحت أم فشلت في "روج آفا" أو شمال شرقي سوريا، أو نسبة المقتنعين أن الديمقراطية كفيلة أو لا، بحل القضية الكردية ضمن سوريا. أو كم هي نسبة الموافقين على دمج المحافظات الثلاث، الحسكة والرقة ودير الزور، مع بعضها في نظام سياسي واحد أو نسبة الرافضين، وما هو موقف عامة الناس والنخب المستقلة من الحديث السوري وعموم الربيع العربي هل استفاد الكرد منها أم لا، هل خسروا فيها أم استفادوا منها، وهل تُشكل المنصات الإعلامية الحزبية، مصدراً للأعضاء الحزبيين لاستقاء المعلومات أم أنهم يُفضلون المراكز الأخرى على المواقع الإلكترونية الحزبية، أو هل تدرك الأحزاب الكردية ما هو الموقف الشعبي منها، هل لا تزال تمثلهم أم لا، خاصة بعد عقود من السّير خلف قراراتهم، لكن ما الموقف اليوم؟ في حين تبقى أبرز قضية تتغاضى عنها الأحزاب هي مشكلة الشباب، فعلى سبيل المثال: لماذا يستخدم الشباب الكردي الإنترنت؟ هل هو للتواصل الاجتماعي ومواقع الدردشة، أم للتفاعل مع القضايا السياسية، وكم حجم الكتلة الشابة المهتمة بالعمل السياسي والسياسيين، ولو طُرح على الشباب في مختلف الأماكن العامة سؤال حول اسم /15/ سكرتيراً، أو /20/ قيادياً، هل سيتمكن الشباب من ذكر تلك الأسماء، وأيهم أكثر تأثيراً في نفسية الشباب، الرياضيون أم السياسيون الكرد. وكيف يقيم الشارع الكردي الأوضاع الأمنية والعسكرية لديه، وما هي نسبة الاقتناع بأن تركيا وتهديدات التوغل هي السبب في المشاكل، هل ستوجد نسب تقول إن عودة القوات السورية هي مشكلة أم لا؟ أو ما هو حجم ونسبة فاعلية وحركية المجلس الكردي في الائتلاف، أو تحميل الإدارة الذاتية مسؤولية كامل ما يجري في البلاد. ماهي اتجاهات الرأي العام في الأعوام الأخيرة من المشكلات التي تواجههم، هل هي ارتفاع الأسعار والوضع الاقتصادي، أو البطالة والفقر تدني مستوى المعيشة، أم أن فقدان الخدمات الإنسانية والعامة والصحة والمشكلات الاجتماعية، أو سيتصدر الأمن والأمان المؤشر. وهل من يفكر ويخاف من الأمراض والأوبئة مثل الكوليرا أو إمكانية عودة كوفيد19 أو متحوراته العائلية.
فضلاً عن واقع الصحافة والإعلام الحزبي على اختلاف حقوله، وحجم الإهمال للنوع على حساب الكم، إضافة لغياب ثقافة إصدار الأوراق البحثية والمطبوعات الفكرية والثقافية حول مختلف القضايا المتعلقة بالقضية الكردية في سوريا، كمواضيع الهويات والعنف واللامركزية وغيرها، وهي كُلها تتكور حول إشكاليات العلاقة بين الكرد وباقي المكونات في سوريا، وبين الكرد والكرد معاً. وماذا بخصوص الموقف من العرب، هل ينظر المجتمع المحلي الكردي إلى القواعد الاجتماعية العربية في سوريا أو غيرها من الدول، الموقف والنظرة ذاتها من الأنظمة؟ علماً أن إيصال القضية الكردية إعلامياً إلى السوريين والعرب في مختلف دولهم، ما كان ليتم لولا الإعلام العربي ومنصاته الجديدة إبان الربيع العربي. ويمكن القول إن القضية لا تتوقف على الإهمال أو عدم المقدرة، بمقدار رغبة متسيدي القرار السياسي والمالي، بالإحجام عن هذه الأنشطة والفعاليات ذات الأهمية العميقة جداً، وهو ما رافقه تنامي ظاهرة إحجام الفئات الشابة عن الانخراط في العمل السياسي، وتحول عجز القيادات من إيجاد مسارات حلول للمشاكل المستعصية، إلى دينامية حركية توشم عملهم حتّى قبل البدء به.
إن الحلم الكردي في سوريا والذي سعت النخب السياسية لتحقيقه قبل عام /2011/ لم يعد ذلك الحلم وتلك الآليات نفسها إبان التطورات التي عصفت بالملف السوري
ويبدو أن الأحزاب الكردية في سوريا ليست في وارد بناء مؤسسات فكرية بحثية، تتبنى رؤية نهضوية للمجتمع الكردي، أو بث الروح مجدداً في الهويّة الكردية وحقوقها، وإعادة إحياء وفلترة الثقافة الكردية التي وصلت إلى أسفل الدرجات. هذه النقلة لا يُمكن أن تتم دون مراكز بحثية رصينة تعتمد على العمل الميداني وقياس الرأي العام، والعمل وفقاً بالأرقام والنسب الدقيقة، كي لا يستمر العمل رغبوياً بلحظة انتصار هشّة. إن الحلم الكردي في سوريا والذي سعت النخب السياسية لتحقيقه قبل عام /2011/ لم يعد ذلك الحلم وتلك الآليات نفسها إبان التطورات التي عصفت بالملف السوري، ووفقاً لما نتلمسه عبر الجلسات المباشرة، أو عبر الوسائط المختلفة للسوشيال ميديا، فإن حجم المشكلات كبرت وكثرت، والحلول قلت وانعدمت، ورأي عامة الناس ومثقفيهم تغير بكل شيء. وأمكن القول إن الواقع الجديد الذي أفرزته الانقسامات الجغرافية في سوريا، والانشطارات المجتمعية والسياسية، باتت بحاجة لمحاججات ومقدمات جديدة، وإذا ما رغبنا بالاطلاع بدقة على الموقف من الحوار مع النظام السوري، المعارضة، وآليات صون وحماية الهوية الكردية، وغيرها من المواقف الأخرى الملحة في عملية بناء المستقبل الكردي، لا فكاك من تفكيك الخطاب السياسي الكردي وإعادة بنائه، وهو ما يحتاج لعمل وجهد بحثي جاد متعب، له ناسه ومتخصصوه، واللافت في الأمر كثافة عدد الأحزاب الكردية والتي فاقت /50/ حزباً، تضم بين دفتيها نُخباً سياسية مخلصة وذات عمق سياسي، لكن غالبيتها العظمى لا تضم باحثاً أو كاتباً واحداً، ثم يأتي من يقول إنهم قريبون من الشعب.