عشر سنوات مضت من عمر الثورة السورية وما تزال جميع الأبواب موصدة في وجه السوريين وفي وجه جميع الحلول الممكنة لإنهاء كارثتهم، في حين تسعى منظمات ومؤسسات دولية ومحلية لتخفيف الأزمة المروعة عبر برامج ومشاريع إسعافية وتنموية دون مستوى إعادة الإعمار المرتبط بمحددات محلية وخارجية سياسية واقتصادية وغيرها.
وتفتقر مناطق سوريا للمشاريع والمبادرات النوعية التي تهدف لتحسين حال السوريين على المدى القريب والمتوسط، وتلبي حاجاتهم الأساسية الملحة كإعادة تأهيل القطاع الزراعي وتحسين التعليم ورفع مستوى الرعاية الصحية وغيرها كثير من المشاريع الخدمية، ويشترط لنجاح هذه البرامج والمشاريع أن تبنى على أسس علمية صحيحة ومرتكزة على نتائج وتوصيات أبحاث ودراسات متخصصة.
وبات حرياً بالمنظمات ومراكز الأبحاث المهتمة بالشأن السوري والمعنية بإعداد خطط إعادة الإعمار البدء باتخاذ إجراءات جدية مبنية على أساس علمي ومعتمدة على أكثر التقنيات العالمية تطوراً لتحديد نسب وأماكن الدمار الذي تعرضت له مختلف المناطق والمدن السورية نتيجة للقصف الوحشي والممنهج من قبل قوات الأسد.
وبادرت الأمم المتحدة بالقيام بمثل هذه الأبحاث والدراسات ضمن خططها لإعادة الإعمار، ففي منتصف آذار لعام 2019 وتزامناً مع الذكرى الثامنة للثورة السورية أصدر معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب (UNITAR) أطلساً خاصاً يوضح مدى الدمار الذي طال المدن والمحافظات السورية، وذلك من خلال دراسة مفصلة لـ 16 مدينة ومنطقة سورية موزعة على امتداد الأراضي السورية.
ووفقاً للتقرير جاءت محافظة حلب على رأس قائمة المدن الأكثر دماراً من حيث عدد الأبنية، حيث بلغ مجموع الأبنية المتضررة 35722 بناء. وصنّفت الدراسة الأبنية المتضررة إلى ثلاثة أقسام:
- أبنية مدمرة بالكامل وهي التي تكون نسبة الدمار فيها بين 75% و100%
- أبنية متضررة بشكل كبير وهي التي تكون نسبة الدمار فيها بين 30% و75%
- أبنية متضررة بشكل جزئي وتكون نسبة الدمار فيها بين 5% و30%
ولإنجاز الدراسة اعتمد معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب (UNITAR) على تحليل صور الأقمار الصناعية في إحصاء الأبنية وتحديد درجة الدمار الحاصل فيها، وعرضت نتائج البحث على شكل خرائط حرارية لكل منطقة بشكل مستقل، كما تم الاعتماد على خرائط (Open Street Map) المفتوحة المصدر لإيجاد حدود كل مدينة وتقسيماتها الإدارية.
لكن هل بالإمكان الاعتماد على صور الأقمار الصناعية فقط لتحديد نسب الدمار الذي طال المدن السورية؟
بداية لا بد من توضيح بعض المفاهيم. ليست كل الأقمار الصناعية مخصصة لمراقبة سطح الأرض، فأهداف إطلاق الأقمار الصناعية إلى الفضاء متعددة منها الاتصالات والأرصاد الجوية ونظم تحديد المواقع وغيرها، بل حتى إن الأقمار المخصصة منها لمراقبة سطح الأرض تختلف فيما بينها من حيث الدقة المكانية (Spatial Resolution) وعدد النُطُق (جمع نطاق) الطيفية التي تستطيع تحديدها (Spectral Resolution). ونقصد بالدقة المكانية قدرة القمر الصناعي على تحديد أدق التفاصيل على سطح الأرض، ونقصد بالنُطُق الطيفية أجزاء الطيف الكهرومغناطيسي التي بإمكان القمر الصناعي رصد انعكاساتها. بالإضافة إلى تفاصيل تقنية عديدة أخرى ليست محور حديثنا في هذا التقرير.
وللولايات المتحدة الأميركية نصيب الأسد في عدد الأقمار الصناعية المنتشرة بكثرة في الفضاء المحيط بالكرة الأرضية، كما أنها تمتلك أهم الشركات العاملة في هذه الصناعة وأحدث التقنيات المتوفرة. وتعتبر شركة ماكسار للتكنولوجيا (Maxar Technologies) التي مقرها الرئيسي يقع في مدينة ويست مينيستر الأميركية أكبر شركة عالمية تطور هذه الخدمات بالإضافة إلى امتلاكها أهم الأقمار الصناعية الموجودة حالياً.
هنالك عدة تقنيات متبعة في تحليل صور الأقمار الصناعية لتحديد نسبة الدمار الذي قد يطرأ على أي منطقة في العالم كنتيجة للحروب أو الانفجارات أو حتى الكوارث الطبيعية (كالزلازل والفيضانات) وتعتمد جميعها على المقارنة بين الصور الملتقطة للمنطقة المراد دراستها قبل وبعد حدوث الدمار. حيث يتم هذا النوع من التحليل إما باستعمال برامج هندسية خاصة أو بتطوير أكواد برمجية خاصة لكل دراسة بحيث تعطي مجالاً أوسع للتحكم ببعض المعاملات والمؤشرات وتغيرها وفقاً لما يتطلبه البحث، ومع تطور خوارزميات الذكاء الصناعي أصبحت نتائج مثل هذه الدراسات أدق وأسرع وأقل جهداً بمرات عديدة.
وجدير بالذكر أنه لا يشترط في هذا النوع من الأبحاث أن تكون صور ما قبل الدمار وبعده ملتقطة بواسطة القمر الصناعي ذاته (فعلى سبيل المثال قد يصادف خلال مرور القمر الصناعي فوق منطقة معينة وجودا كثيفا للغمام يحجب الرؤيا عن القمر الصناعي)، فبالإمكان استخدام صور من أقمار صناعية مختلفة، ولكن بعد إجراء تعديلات معينة قبل البدء بعملية التحليل لتصبح الصور جميعها بمستوى واحد من الدقة المكانية وتملك ذات الخصائص التقنية لتتناسب مع هدف الدراسة المراد القيام بها.
ما الذي ينبغي فعله للبدء بمثل هكذا دراسات؟
تتوفر عدة أقمار صناعية كـ الفرنسية (Pleiades-1A وPleiades-1B) وسلالة (WorldView) الأميركية الأفضل عالمياً بالإضافة لبضعة أقمار أخرى توازي هذه بالمواصفات، وقد أطلق معظم هذه الأقمار قبل الثورة السورية وتمثل أفضل الخيارات المتاحة وذلك بسبب دقتها المكانية العالية، فجميعها الآن تمتلك صورا متنوعة عديدة وعلى فترات زمنية مختلفة لجميع أنحاء العالم عموماً ولسوريا على وجه التحديد وذلك قبل وخلال سنوات الثورة.
وامتلاك أرشيف كامل من هذه الصور يمثل أهم خطوة ينبغي على مراكز الأبحاث والمنظمات البدء بها، مع الأخذ بعين الاعتبار نقطتين مهمتين أولهما أنه قد تكون الدول المالكة لهذه الأقمار قد وضعت حظراً على بيع هذه الصور إلا لجهات دولية معينة وذلك منعاً من وصولها لجماعات مسلحة قد تستخدمها في عمليات إرهابية، ففي هذه الحالة ينبغي إيجاد قنوات بحثية تعليمية أو دبلوماسية للحصول على هذه الصور، وثانيهما هي أن الكلفة الاقتصادية لهذه الصور ورغم أنها ليست مرتفعة بشكل كبير إلا أنها ليست بالقليلة، خصوصاً وأن تنفيذ مثل هذه الدراسات يحتاج لصور نصف سنوية على أقل وعلى مدار أكثر من عشر سنوات لجميع أنحاء سوريا البالغ مساحتها 18518 كيلومترا مربعا، وقد تصل كلفة شراء الكيلومتر المربع الواحد في صور الأقمار الصناعية لـ 20 دولاراً.
إن اعتماد صور الأقمار الصناعية فقط لتحديد حجم الدمار قد لا يوفر نتائج دقيقة بنسبة 100%، فوجود فرق عمل ميدانية على امتداد الرقعة السورية مهمتها القيام بأعمال المسح وتقييم درجة الدمار وجمع عدة بيانات أخرى متعلقة بكل بناء، هو الطريقة الأفضل للحصول على نتائج مثالية، ولكن من شبه المستحيل القيام بهذه المهمة وذلك لعدة اعتبارات أهمها صعوبة الوصول لجميع المناطق السورية بالإضافة إلى المدة الزمنية الطويلة التي ستستغرقها هذه الفرق للوصول إلى النتائج وإنهاء البحث وذلك ما يترتب عليه كلفة مادية مرتفعة جداً.
ولهذا يبقى التحليل المستند على صور الأقمار الصناعية الخيار الأمثل والأجدى من حيث الكلفة والزمن ودقة النتائج. وعليه فلا ينبغي على المعنيين بدراسات إعادة الإعمار الانتظار طويلاً للبدء بهذه الأنشطة، خصوصاً وأن وجود أرشيف كامل من صور الأقمار الصناعية عالية الدقة يتيح إمكانية البدء بدراسات أخرى مميزة متعلقة بالزراعة والطرق والمياه والتوزع السكاني وبناء المخيمات وغيرها كثير من الأبحاث التي تلعب الأقمار الصناعية دوراً فيها.
وأخيراً، لقد تطور العلم والتكنولوجيا لدرجة أن لدى الدول الأوروبية وأميركا أقماراً صناعية متوسطة الدقة معظمها يقدم خدماته بشكل مجاني، ومتاحة لعموم الناس وذلك بهدف الاستفادة من صور هذه الأقمار في تحسين عدد من القطاعات الخدمية، كما في سلسلة الأقمار الصناعية المجانية (Sentinel) والتي أدت نتائج الدراسات والأبحاث العلمية الذي استخدمت فيها بيانات هذه السلسة إلى تطوير القطاع الزراعي الأوروبي والعالمي بشكل كبير، وعلى المؤسسات والجهات المحلية والدولية الفاعلة والمعنية بسوريا وملفاتها، الاستفادة من هذه التقنيات وامتلاك المهارات اللازمة للتعامل معها على أقل تقدير ومواكبة هذا التطور التقني العالمي المتسارع بشدة.